التوحش سمة لصيقة بالحضارة أكثر منها بالمجتمعات البدائية. هذه هي الفكرة، التي يحاول الفرنسي إدغار موران إثباتها من خلال كتابه "ثقافة أوروبا وبربريتها" الذي ترجمه محمد الهلالي، وصدر في سلسلة"المعرفة الفلسفية"عن دار توبقال المغربية. النص يتوزع على ثلاثة فصول، وهو في الأصل ثلاث محاضرات قدمها الكاتب في مكتبة فرانسوا باريس، وحملت في الكتاب عناوين: بربرية أوروبية، الترياقات الأوروبية الثقافة الأوروبية كمضادات واقية، والتفكير في بربرية القرن العشرين. يقدم موران في البداية تصوره عن الوجوه الخفية للظواهر والتسميات، وأن هذا الخفاء هو السبب الذي يجعلها ناقصة على الدوام. فصورة الإنسان المفكر، والإنسان الصانع، والإنسان الاقتصادي تقدم الوجه المشهور لكل منهم، لكن الواقع يؤكد أن الإنسان المفكر ذا الذهن العقلاني يمكن أن يكون قادراً على الهذيان والحمق. والصانع الذي يتقن إنتاج الأدوات العملية واستخدامها كان قادراً على الدوام على إنتاج الأساطير، والإنسان الاقتصادي هو في وجهه الآخر إنسان الاستهلاك واللعب والإنفاق والتبذير! ومن خلال دمج هذه الصور يقدم موران تصوره عن"انثروبولوجية البربرية الإنسانية"مستعيراً مصطلح"النوسفير"من تيلهارد دو شاردان، والذي يعني في تصور موران عالم الأفكار والأذهان والآلهة وليدة الثقافة الإنسانية. ينتج الذهن البشري آلهة تتمتع بحياة خاصة وبسلطة تمكنها من السيطرة على الأذهان. وبهذه الكيفية الدائرية تنتج البشرية بربريتها. ومع ذلك لا يمكن اختزال الخضوع للسيطرة الدينية في النتائج الأكثر رعباً، فمن خلالها نحصل أيضاً على الأعمال الأكثر سمواً. القول نفسه ينطبق على التقنية التي تنتجها الأذهان وتنفلت من عقالها لتتخلص من الإنسانية التي أنتجتها. والعنف ليس حكراً على إنسان التقنية، إنسان الاقتصاد له ألعابه القاسية، ويجعل المصلحة الاقتصادية، مصلحته المتمركزة حول الأنا فوق كل اعتبار. وقد جعل هذا العنف أكثر ارتباطاً بالمجتمعات الكبرى، والإمبراطوريات، أكثر من ارتباطه بالمجتمعات الأولى الصغيرة التي أنتجت التنوع الحضاري، والتي كان لها هي الأخرى عنفها الخاص تم التعرف الى سلوكات اغتيالية لدى القردة الشامبانزي، لكن عمليات التخريب الممنهجة والسلب والاغتصاب والاسترقاق تبقى كلها حكراً على سلطة الدولة ومجتمعها الحضاري. والبربرية بهذا المعنى ليست عنصراً مرافقاً للحضارة، بل هي جزء عضوي منها. الغزو الروماني كان من أكثر أشكال الغزو بربرية في العصر القديم بأكمله، لكن ثقافة اليونان تسربت إلى الغازي، وهكذا أنتجت البربرية حضارة تميزت بالتسامح الديني، وكانت عبادة أوزوريس وميترا وعقيدة أورفي مقبولة معاً على الوجه الأكمل، بخلاف التوحيد اليهودي ومن بعده المسيحي الذي جلب لا تسامحه الخاص، حتى مع التيارات الفكرية والتأويلات من داخلها. ويتوقف موران أمام عام 1492 الذي يصفه ب"العام الغريب"، عام غزو أميركا واحتلال غرناطة، آخر معقل إسلامي في إسبانيا، وما صاحبه من إجراءات تطهير ديني، سينحو في ما بعد نحو الطابع العرقي. ولم تعرف بربرية الغزو الأوروبية حدوداً في قضائها على الثقافات الصغيرة، في أميركا وأستراليا وتشيلي، وفي أوروبا نفسها وظواهرها وتياراتها السياسية الكارثية طوال القرن العشرين. ترياق الثقافة يعتقد موران أننا في عصر تشهد فيه البربرية الأوروبية تراجعاً كبيراً، ويتصور أن الترياق الثقافي لعب دوراً كبيراً في هذا التراجع، ابتداء من القرن السادس عشر، عندما بعثت النهضة الإرث اليوناني واللاتيني مجدداً، وقد عمل هذا الإرث على تفجير الطوق اللاهوتي، وأنتج استقلالاً للفكر، وسمح بتطور العلم الذي يقوم على أربعة مرتكزات: النزعة التجريبية، العقلانية النظرية، التحقق، والخيال. كانت النزعة الإنسية من سمات ذلك العصر، وأرجعها البعض إلى الرسالة المسيحية، وأرجعها البعض الآخر إلى التراث اليوناني، وأياً كان المصدر فقد تطورت في اتجاهين متعارضين، أحدهما مسيطر والآخر أخوي. الوجه الأول للنزعة الإنسية يخص الإنسان بغزو العالم. وهذه هي المهمة التي يسندها ديكارت إلى العلم: جعل الإنسان سيداً ومالكاً للطبيعة. ولم تنفجر هذه الرسالة التي يصفها موران بپ"البروميثوسية"إلا ابتداء من 1970 عندما اكتشف الإنسان أن السيطرة على الطبيعة لها طابع انتحاري، ما يقود إلى تدهور المحيط الحيوي. الوجه الثاني للنزعة الإنسية الوجه الأخوي قصّره الأوروبيون على أنفسهم، معتبرين أن الشعوب الأخرى كانت متخلفة وتعيش وفق مواصفات العهود السحيقة، أو تعيش طفولة عقلانية. لكن لحسن الحظ كانت هناك اتجاهات للنقد، واتجاهات لتصحيح المسار مع الاشتراكية مرة ومع الرومانسية مرة أخرى، مما رسخ اتجاهاً لطموح الازدهار الإنساني. أي أن الترياق تشكل في أوروبا مقر الغزو بفضل مفكرين ومناضلين ذوي إرادة حسنة، أصبحت أفكارهم قدوة، في عولمة لإنسانية مشتركة، هي في نظر موران ما يميز مانديلا - وإرث الفكر الماركسي - الذي نادى بوطن بلا تمييز للسود والبيض عن الثورات الانتقامية والتطهير الذي مورس في أوروبا الشرقية. يعود موران بتاريخ البربرية إلى امبرطوريات الشرق الأوسط، وستة آلاف سنة إلى الوراء، لكنه يعتبر أن بربرية الغزو لأباطرة مثل تاميرلان وجنكيزخان لم تشكل امبراطوريات دائمة مثلما فعلت بربرية أوروبا التي لم ينته تراثها الاستعماري إلا في ستينات القرن العشرين. الأمة الحديثة البربرية الأوروبية مرتبطة بفكرة الأمة الحديثة في كل هوسها بالتطهير والنقاء الديني ثم الإثني، وقد برزت الديكتاتورية كثمرة بشعة للحرب العالمية الأولى، وقد دفعت الحرب العالمية الثانية الاتجاهات البربرية إلى أوجها. ويبدأ موران بتشريح التوتاليتارية الستالينية، مؤكداً أن الماركسية كفكر غنية ولا تزال في غاية الراهنية، وأن هزيمتها كانت ثقافية، عندما تخلت عن بناء مجتمع قائم على روح الأخوية. لم تتكون سلطة البروليتاريا، ولكن ما حدث هو أن الحزب أصبح يراقب الطبقة العاملة ويقمعها. ويشبّه موران تخلي الستالينية عن المنظور الثوري العالمي لمصلحة الاهتمام ببناء الاشتراكية في بلد واحد، أي التخلي عن الأخوة الإنسانية، بالفشل، الروحي للمسيحية التي تحولت إلى سلطة شوهت الرسالة الأصلية للمسيح. المنتج الأكثر كارثية للبربرية الأوروبية هو النازية التي تشكلت من الأزمة الاقتصادية وأثرها في ألمانيا - أكبر البلاد الصناعية في أوروبا - ومن الإحساس بالإهانة من جراء معاهدة فرساي التي حرمتها من أراض يتحدث سكانها الألمانية، بينما كان النجاح الاقتصادي والقضاء على البطالة عاملين مهمين في تدعيم الهتلرية. وفما يحضر في الذهن عند تذكر ضحايا النازية والاضطهاد الاستعماري والاسترقاق هو بربرية أوروبا. على أنه لا ينبغي النظر في شكل أحادي، فإذا ركزنا على أوشفيتز فقط نكون قد قللنا من أهمية الكولاغ مخيمات الإبادة السوفياتية. وبالمنطق الكمي، فإن ضحايا الاتحاد السوفياتي أكثر عدداً، ونتائج البربرية فيه كانت أطول زمناً. وما يجب أن تؤدي إليه بربريات القرن العشرين هو المطالبة بأنسنة جديدة تنطلق من التعرف على البربرية كما هي من دون تبسيط أو تشويه، والندم ليس مهماً في هذه الحال، فالمهم هو الاعتراف المشمول بالوعي والمعرفة بتعقد المأساة الضخمة، وأن يشمل الاعتراف جميع الضحايا: السود، اليهود، الغجر، الشواذ، الأرمن، مستعمرو الجزائر أو مدغشقر. وهذا الاعتراف هو شرط ضروري لتجاوز البربرية الأوروبية.