ما كان ينقصنا في حفلة"تجديد الفكر القومي"بالعاصمة السورية غير تلك التمائم والتعاويذ التي حرّرها الدكتور عزمي بشارة بحق من أسماهم"العدميين العرب"، أي أولئك الذي ينبغي الاقتصاص منهم"لا نعرف كيف". فهذه ليست مهمة"المفكر والمناضل"بشارة، اذ تنحصر وظيفته في التركيز على ضرورة توجيه ضربات قاصمة للعدميين هؤلاء، ومن شأن العقل الأمني - الرومانسي الذي في استقباله أن يتكفّل من ثمّ بالباقي، فيترجم المطالعة الفكرية بحقهم إلى حقيقة مادية تدمي وتبكي. لا نعرف إن كان ميشيل كيلو وفايز سارة من أولئك المشار اليهم ب"العدميين"في المطالعة الفكرية"الفذّة"للدكتور عزمي بشارة. ولا نعرف إن كان كاتب"الرسالة من عامل سوري الى بشار الأسد"عام 2005"عدمياً"بدوره وفقاً لهذه المطالعة. الرسالة هذه كان قد كتبها عزمي بشارة نفسه، مبالغاً الى حد كبير في تصوير العداء اللبناني للعمال السوريين كما لو أنه مماثل للعداء الاسرائيلي للفلسطينيين، إنما ليلفت في الوقت نفسه الى مفارقة أن العامل السوري كان مضطهداً في المرحلة نفسها التي كان الضابط السوري يبسط سلطانه على لبنان. جلّ ما يمكن أن نعرفه من اسهام بشارة في"تجديد الفكر القومي"أن"العدميين"هم"السطحيون من حلفاء المرحلة الأميركية". الصراع الفكري يدور إذاً بين السطحيين العملاء من جهة، وبين من يسبر الأعماق والاغوار بنباهة منقطعة النظير من جهة أخرى. ليست هذه سابقة في"الفكر القومي": نصّ يصف نفسه بأنه"العميق"في مواجهة"السطحيين". نصّ ينكر احتمال أن يكون لدى الآخرين عمق. الآخر هو السطح. الآخر قشرة عارضة زائلة. يمكن تنحية هذه القشرة الفاسدة من خلال التخصيب المتجدد للفكر العميق، الفكر القومي، البعثي بامتياز. بيد أن الواقع السوري، السطح السوري، يعود فيذكرنا، بأن ثمّة من هم"تحت السطح"،"تحت الأرض"، في أقبية الاعتقال والتعذيب، وليس بإرادتهم طبعاً. السطحيون يحتجزون في العوالم السفلية، أما روّاد التعمّق في الفكر القومي فيجلسون على الأرائك الوثيرة. رومانسية!! في الماضي القريب، أي قبل حرب تموز، كان الدكتور عزمي بشارة، وقبل انكشاف"اسهامه"هو يصرّ على اعتباره اسهاماً نظرياً، والاسرائيليون يصرّون على كشفه كاسهام استخباري، يبّرر صلاته بالنظام السوري على أساس أنه ليس من الأخلاقي المطالبة بتغيير هذا النظام من موقعه كنائب في الكنيست الاسرائيلي. الآن، تجاوز بشارة فترة"النضال الثوري من خلال البرلمان"، فعاد الى العاصمة السورية هذه المرّة على أساس نظري جديد: هو، يمثّل روح القومية المتجدّدة، أما النظام السوري، فيمثل جسد هذه القومية المتجدّدة. يمكن ألا ينفي عزمي بشارة تميزاً لفظياً في مكان ما عن النظام السوري، لكنه تميز الروح عن الجسد. معادلة القومية المتجددة هي اذاً: الرئيس بشار الأسد ونظامه يمثّلان الجسد، عزمي بشارة يمثّل الروح. من يقول بعكس ذلك عدمي. بشارة ? الرّوح يفكر ضد" العدمية". الجسد ? النظام يتكفل بانهاء"العدمية". لكن لنعد الى نص المحاضرة التي ألقاها بشارة. هو يعرّف أولاً علاقة القومية العربية بالرومانسية. هو يعرّف ثانياً علاقة العدمية العربية اللاقومية بالرومانسية. عن علاقة القومية العربية بالرومانسية يقول:"حتى بعناصرها الرومانسية، وهي قائمة طبعاً، ليست القومية العربية مجرد حالة رومانسية بل حاجة ماسة وبراغماتية في الوصول ليس فقط الى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل أيضاً لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيّد غالبية الطوائف والعشائر، العربية على الأقل، عن التحكّم في انتماء الفرد السياسي". أما عن علاقة العدميين العرب اللاقوميين بالرومانسية، فهو يوضح بأن هؤلاء هم من يحاربون قومية الرومانسية العرب، في مقابل تبني رومانسيات أخرى مثل"رومانسية التنوير""والرومانسية القومية الانكليزية". عزمي بشارة يعيب اذاً على العدميين العرب تبنيهم رومانسية غير أصيلة، ولأجل ذلك يصفهم بالعدميين. وهو يقدّر في المقابل احتضان القوميين العرب للعناصر الرومانسية الأصيلة، لكنه يطالبهم باستخراج اللّب النفعي الكامن وراء هذه العناصر. والرومانسية تكاد تعني في أطروحته"العاطفية"أو"الإرادوية". العدميون العرب يتبنون"عواطف"غيرهم، ولأجل ذلك يتشكلون ك"طابور خامس". القوميون العرب ينصتون الى"عواطف"أمتهم، ولأجل ذلك عليهم أن يعيدوا تشكيل طليعتهم، لكنْ هذه المرة، على أساس وعي القومية"كحاجة ماسّة وبراغماتية"، للوصول الى حداثة حاضنة للمجتمع والفرد وهذه محاولة لاكساب الرطانة البعثية شطحات ليبرالية. بيد أن هذه القسمة بحد ذاتها، بين رومانسيتين"مغتربة عن الذات"العدميون العرب و"متأصلة في الذات"القوميون العرب انما هي قسمة"رومانسية"و"عدمية". "رومانسية"لأنها عند النظر الى المجتمعات تفتعل تمزّقاً أو صراعاً بين ما هو"طبيعي"وبين ما هو"اصطناعي". النظرة الرومانسية لا تقيم وزناً للتاريخ كتاريخ، وان كانت تظهر في كثير من الحالات بمظهر"التاريخانية"، لأنها توجز التاريخ كملحمة صراع بين"النزعات الطبيعية"وبين"النزعات الاصطناعية". والقوميون العرب يعبّرون عن النزعات الطبيعية بقلبهم، وما يطالبهم به بشارة التعبير عنها بعقلهم، الذي هو عقله الشخصي على طريقة الحاسوب الشخصي. هو"العقل"الذي يهدي نفسه الى هذه"القومية"بعد زهده بمقعده في الكنيست. العدميون العرب يعبّرون عن"النزعات الاصطناعية"، وبالتالي فّأوّل مهمة أمام القوميين العرب المتجدّدين، على طريق وعي القومية العربية كعملية ماسة وبراغماتية، استئصال هؤلاء. في الظاهر، يدّعي بشارة تجديد القومية العربية، بحيث تصبح"قومية واقعية وذات بعد ليبرالي". أما إن تمعنّا في ما يقول، فلا نجد أقلّ من"قومية استئصالية"تعرّف نفسها بأنّها وعي الأمة لذاتها من طريق استئصال الأمة لزائدتها الدودية"العدمية". ثمّة في مطالعة بشارة شبهة"نازية جديدة"."العدميون العرب""يهود هذه الأمة". هذه الشبهة تتأكد عندما يحاول التخفيف من وقع"الجرمانوفيليا"الصميمة للفكر القومي العربي الشوفيني. ما ينقده بشارة من هذه"الجرمانوفيليا"هو فقط الجزء"البيسماركي"منها، أي ما يتصل بالمنحى الوحدوي ? المركزي. ما يريد المحافظة عليه هو الجانب"النازي"الصرف منها، أي"التربية"، و"التثقيف القيمي والأخلاقي ومنح الشباب حلماً وقيماً ومعنى". وهو يعتّم في هذا المجال على التجربة"التربوية"المذهبية العرقية الخالصة التي باركها ساطع الحصري في العراق. أما طه حسين، فلا نعرف كيف يمكن أن ينسب بشارة دعوته"التربوية"اليه، ولو أنّ بشارة البعث - 2 يخون منطقه عند التذكير بأن طه حسين قد أعد برامج التربية والتعليم في اطار"الوطنية المصرية". تحت ستار هذه الدعوة"التربوية"، يساجل بشارة ضد"ظاهرة تسييس الانتماءات الطائفية والمذهبية والعشائرية وغياب الحرج عند تسييسها كجماعات هوية". ونراه يطلق العنان لنزعة"الليبانوفوبيا"، أي العداء لكل ما هو لبناني. لبنان هنا هو رأس الخطيئة. القومية العربية المتجددة تتأسس بالضد من كل ما هو لبناني. لا يقيم بشارة أي فارق بين"الاعتراف بالهويات المختلفة"، وبين"تسييسها". وهو في ذلك يواصل الذمّية الأيديولوجية. لئن كان ميشيل عفلق البعثي الذمّي المغضوب عليه في سورية، فبشارة البعثي الذمّي العائد، انه عفلق المتصالح مع القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي + الليبرالي البراغماتي، وفقاً لتعريفات النابغة. ثمة من ينبغي أن يشرح للفارس الذي بلا جواد المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، والمسألة القبطية والنوبية في مصر، والمسألة الجنوبية والدارفورية في السودان، والمسألة الكردية والشيعية والمارونية في المشرق. لكن كيف ذلك، وبشارة ليس الا الوجه الآخر ل"عزام عزام"، ولو من الضفّة الأخرى. فقد عرّف اميل حبيبي الكائن العربي الباقي في دولة اسرائيل على أنه"المتشائل". عزمي بشارة وعزّام عزّام أرادا شطر المتشائل قسمين. عزّام اختار العمل لصالح الموساد في مصر، ولما أعيد الى بلده رفع العلم الاسرائيلي وسط حشد من ذويه وهو يبكي ويصرخ"فداء الدولة، فداء الدولة". بشارة، استمد كل رأسماله الرمزي من عضويته في الكنيست الاسرائيلي. الآن يريد أن يحوّل رصيده هذا الى حيث يكرّس كعقل للبعث المتجدّد. لقد بذل العرب الفلسطينيون في دولة اسرائيل جهوداً حثيثة لتحصيل مكاسب وتوطيد حقوق، وللتصالح مع تاريخهم والذاكرة قدر الإمكان، ولكي يؤمنوا بنموذج للتعايش والمثابرة، وبخصوصية للحضور جسراً للتصالح مع الذات والتاريخ والآخر فلسطينياً وعربياً. وقد تفاخر كبير هؤلاء، إميل حبيبي، بأنه"باق في حيفا"، وبأن الأنظمة العربية لو لم تتدخل في حرب 48، لكان أهل البلد أدرى بسبل ردّ الظلم واحراز التسوية. وعلى منواله سار الجيل تلو الجيل، إلى أن كانت صواريخ ارتحششتا وكسرى تطلب من العرب الفلسطينيين في حيفا مغادرة المدينة ابان حرب تموز، للتمكّن من قصفها، والتعريض بمعالمها التراثية، بل معالمها الكفاحية الثقافية، كما لم يفعل عتاة الصهاينة. من يصدق أن البلاد التي أحبها إميل حبيبي وتوفيق زياد هي نفسها بلاد عزمي بشارة؟ أثناء حرب تموز، كان يوصي أيضاً بضرب الناصرة والخضيرة. فرمز الفشل الفلسفي والأدبي والبرلماني والأخلاقي، لم يجد غير أمل واحد للنجاح: وهو أن يمعن في التحوّل، عمليّاً وإن لم يكن لفظيّاً، داعية"الترانسفير"الأول لعرب اسرائيل، يعينه في ذلك أولئك الذين نفّذوا عملية القدس الأخيرة، ممّن يرون بأنه كي تدان اسرائيل بالفعل، على وحشيتها، عليهم أن يبذلوا جهداً حثيثاً كي يجعلوها تسعّر هذه الوحشية في كل يوم الى درجة طردهم. فأن يوجّه بعد ذلك هذا الرمز تهمة"العدمية"الى سواه، فهي ملتصقة بأقواله وأعماله بالأحرى. ما العدمية؟ إنها تتضمّن كل مذهب يفتي بأنّ لا معنى لهذه الحياة إن لم تكن مقارعة مستمرة للعدم، وان لم تكن اعتصاماً مستمراً ضد العدم. العدمية تحسب أن لا همّ لها غير مقارعة العدم. وهي لأجل ذلك توجه له اللكمة تلو اللكمة حتى لو تطلّب ذلك تزوير الوقائع، ثم اغتيال الشهود، ثم تفجير الذات على رؤوس الأشهاد في قاعة المحكمة. العدمية تدعو الى مواجهة العدم بشكل فوري، مباشر، تحت شمس الظهيرة، وبلا ظلال. ولأنها كذلك، هي ظلّ للعدم. تتعامل معه كما لو أنه موجود. تتعامل معه كأصل لكل موجود. تتعامل مع العدم على أنه الوجود الوحيد الذي يستأهل الخدمة والتضحيات. ولأجل ذلك، فعندما تتنبه العدمية الى وجود آخر، غير هذا العدم، تحتج على ذلك، وتدعو لإعدام هذا"الوجود غير الشرعي". الوجود الحقيقي، القائم بالفعل، هو في عرف العدمية، وجود"لا شرعي، ولا ميثاقي، ولا دستوري"، مثله مثل حكومة فؤاد السنيورة. وهذا ما قد دأبت عليه مدرسة الممانعين، وتحديداً قطبها بشارة. كل الحقائق والأفكار عندهم ينبغي أن تعدم ان لم تكن مبتهلة للمقاومة، للعدم. كل حياة لا تريد التضحية بنفسها في سبيل العدم ينبغي لها أن تعدم. كل حياة تريد التعلّم من تجارب الأمم الأخرى، ينبغي لها أن تعدم. لا حاجة لمناقشة شيخ العدميين كلمة بكلمة. أن يكون قد اختار دمشق 2008 منبراً للانقضاض على المثقفين العرب، فهذا يكفي للرد عليه. وليست هذه العجالة للرّد عليه، وانما لوضعها برسم لجنة التحقيق الدولية المعنية بجرائم الاغتيال في لبنان. فأي تهديد أو تعريض أو تنكيل بأي مثقف لبناني حرّ في الأسابيع المقبلة سيكون مسؤولاً عنه ذاك الذي حرّض وحرّض وحرّض غير بعيد عن المكان الذي قتل فيه عماد مغنية. * كاتب لبناني