عام 1971، كان الموسيقي اليوناني الكبير ميكيس ثيودوراكس يزور الشيلي، بناء على دعوة من رئيسها الاشتراكي المنتخب ديموقراطياً سلفادور إليندي، لتقديم حفلات موسيقية. في ذلك الحين كانت الشيلي الشعبية تعيش زمناً حماسياً صاخباً بفضل وصول تحالف القوى اليسارية - الديموقراطية الى السلطة. وخلال زيارته قابل تيودوراكس بعض أبرز رموز الثقافة والفكر التقدميين، الذين كانوا داعمين الرئيس اليندي، بينهم بابلو نيرودا، شاعر الشيلي وأرضها وطبيعتها وباني صرح ثقافتها أواسط القرن العشرين. وخلال اللقاء بينهما، فوجئ هذا الأخير بالموسيقي اليوناني يطلب منه نسخة بالإسبانية الشيلية لقصيدته الكبرى"النشيد الشامل". لكن مفاجأة نيرودا كانت أكبر حين أخبره صديقه الموسيقي انه عازم على تحويل القصيدة الى أوراتوريو نوع من الغناء الأوبرالي الجماعي الذي يرتل من دون تمثيل أو ديكورات، من طريق أصوات فردية ومجموعات الكورس، ففغر فاه، ونظر الى صديقه متسائلاً: هل قرأت"النشيد"من قبل؟ هل رأيته؟ وإذ بدا جواب ثيودوراكس مبهماً، أكمل نيرودا قائلاً:"هل تعتقد ان في إمكانك حقاً ان تلحن، في"أوراتوريو"واحد 15 ألف بيت من الشعر، موزعة على 15 قسماً يضم كل منها ما معدله 15 قصيدة؟"أمام هذا السؤال فهم ثيودوراكس ان"النشيد الشامل"هو عمل أطول كثيراً مما كان يعتقد واكتفى في النهاية، طبعاً، بتلحين مختارات من النشيد. والحقيقة ان ما كان ثيودوراكس يعتقده، يشكل عادة سوء التفاهم الأول الذي يجابه كل أولئك الذين تكون سمعة"النشيد الشامل"قد بلغتهم قبل ان يقرأوه، إذ من الصعب ان يدور في خلدهم، بداية، أنهم امام عمل له كل هذا الطول، خصوصاً ان كثراً من متابعي حياة نيرودا، يعرفون انه كتب قصائد هذا النشيد الطويل، فيما كان هارباً ومتخفياً في مناطق عدة ومتغيرة من الشيلي عند نهاية ثلاثينات القرن العشرين وبدايات أربعيناته. ويعرف هؤلاء ان حكاية تأليف هذا النشيد هي، في حد ذاتها، حكاية جديرة بأن تروى. وقد بدأت عام 1938، حين بدأت قوات الأمن التابعة للديكتاتور غونزاليس فيديلا، مطاردة نيرودا للقبض عليه. ولقد بدت تلك المطاردة غريبة بالنسبة الى المراقبين الأجانب الذين كانوا يعرفون ان نيرودا كان خلال السنوات السابقة من أكثر المتحمسين لوصول فيديلا الى السلطة. إذ ان هذا الأخير كان قدم نفسه ذا وجه تقدمي ومتحالفاً مع اليسار الشيوعي الذي كان نيرودا ينتمي إليه. لكن فيديلا ما ان وصل الى السلطة حتى تبدل تماماً: تخلى عن مبادئه وحلفائه وآثر ان يمارس حكماً ديكتاتورياً عسكرياً... وبدأ يطارد الشيوعيين وغيرهم من اليساريين. وكان نيرودا في ذلك الحين عضواً في مجلس الشيوخ متمتعاً بحصانة رسمية. ومن هنا نراه يكتب قصيدة هجائية يفضح فيها ممارسات فيديلا عنوانها"إني أتهم"? على عنوان مقالة اميل زولا الشهيرة -، فما كان من فيديلا إلا ان أمر باعتقاله راصداً جائزة مالية ضخة لمن يساعد في ذلك. وهكذا اختفى نيرودا هارباً من مكان الى مكان، متنقلاً بين المدن والأرياف. ولقد كان لذلك الوضع إيجابياته إذ ان نيرودا استعاد علاقته بمناطق الشيلي وسكانها المتنوعين وأريافها ومدنها ومكوناتها الطبيعية، وكذلك انطلاقاً من هنا بتاريخها. وهذا كله نراه معكوساً في القصائد العديدة التي راح يدونها خلال تلك المرحلة. وهي القصائد التي شكلت ما سمي لاحقاً"النشيد الشامل"واعتبر"انجيل تاريخ اميركا اللاتينية وطبيعتها". والحقيقة ان نيرودا خلال كتابته هذه القصائد، لم يعبر فقط عن ثورة سياسية وإيديولوجية وعن رؤية للشعب المناضل وتاريخه، بل عبّر كذلك عن ثورة في عالم الشعر ووظيفته ايضاً. ومن هنا اعتبرت قصائد"النشيد الشامل"أول ثورة حقيقية في شعر اميركا اللاتينية وأكبرها، ووصفها النقاد والقراء بأنها ملحمة حقيقية. في شكل عام، وعلى رغم ان النشيد يتألف من 15 قسماً تتوزع على 231 قصيدة، يظل الأشهر هو القسم الثاني"أعالي ماتشو بيتشو"، الذي كان أول ما ترجم الى الإنكليزية وإلى غيرها من اللغات، قبل ان تترجم بقية الأقسام. ولقد أعطى نيرودا لكل قسم عنواناً خاصاً به على الشكل التالي:"قنديل فوق الأرض""أعالي ماتشو بيتشو"الغزاة""المحررون""الغدر بالرمل""أميركا أنا لا أذكر اسمك عبثاً""نشيد الشيلي الشامل""خوان هو اسم الأرض""دعوا الحطاب يستيقظ""الهارب""زهرة بوناتيكوي""انهار الدم"كورس عيد الميلاد لبلد في العتمة""المحيط الكبير"وپ"أنا أكون". وكما نلاحظ هنا، تنقل الشاعر بين قصيدة وأخرى، وبين مقطع وآخر، بين البلدان والمناطق والتواريخ. بين ما يعرفه وما يعيشه. بين ذاته والأرض، مخاطباً، في معظم الأحيان، ليس وطنه، الشيلي، وحده، إنما اميركا الجنوبية كلها، انطلاقاً من ان هذا العالم الذي تأسس معاً، بالدم والتعب والقمع، لا يمكنه ان يحصل على حريته إلا معاً. وعلى هذا النحو لا يعود غريباً ان أمماً كثيرة في أميركا اللاتينية تتبنى"النشيد الشامل"إنجيلاً لنضالها وتاريخها. وبالتالي لا يعود غريباً ان نلاحظ كيف ان الشعوب التي وصلها هذا النشيد، مترجماً، كلياً او جزئياً، الى لغاتها، تبنته تماماً، ليس كعمل إبداعي يحكي عن بلد بعيد ذي تاريخ معقد مركب ودموي، وإنما ايضاً كعمل إنساني شامل، وميكيس ثيودوراكس، الموسيقي اليوناني الكبير المولود عام 1925، حين لحن"النشيد الشامل"، لم يلحنه بوصفه فقط تحية الى تلك الشيلي الشعبية التي كان صديقاً لقادتها ومثقفيها، بل كذلك بوصفها نشيداً لكل المقهورين في العالم. ونتذكر هنا، ان ثيودوراكس الذي كان بدأ تلحين مقاطع من النشيد عام 1971، كان من المفترض ان يقدم ما أنجزه للمرة الأولى في استاد سانتياغو عاصمة الشيلي خلال شهر أيلول سبتمبر 1973. ولكن، قبل موعد التقديم بأيام قليلة قام الجيش الشيلي بقيادة الجنرال بينوشيت، مدعوماً من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بانقلابه الدموي، تحديداً يوم 11 من ذلك الشهر، وفي وقت كان ألوف من الشبان الشيليين محتشدين في الستاد نفسه. ولقد أدى الانقلاب يومها الى اغتيال عسكر بينوشيت لزعيم الوحدة الشعبية سلفادور اليندي، ومئات غيره، بينهم مغني الشيلي فكتور جارا، واعتقل الألوف في الستاد... مغتالاً إياهم، كما اغتيال جارا. على ضوء ذلك الحدث المرعب، والذي أدى بعد ايام قليلة الى مقتل بابلو نيرودا نفسه في منزله لم يعد بالطبع وارداً تقديم"النشيد الشامل"في سانتياغو، لكن النشيد الذي راح ثيودوراكس يطوف به أنحاء شتى من العالم، بينها بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية، إذ قدم حفلة كبيرة في قاعة صالة بيكاديللي في شارع الحمراء هذا النشيد اتخذ منذ ذلك الحين دلالة أخرى وصار علماً على جزء اساس من تاريخ الشيلي وأميركا اللاتينية والقوى الديموقراطية في العالم. عاش بابلو نيرودا بين 1904 و1973، وكان شاعراً وناقداً، وديبلوماسياً ووجهاً سياسياً بارزاً في بلاده وفي طول أميركا اللاتينية وعرضها. ونيرودا الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1971، ولئن كان ثمة إجماع حول قيمته الفنية وعظمة أشعاره ونصوصه الأخرى، يعتبر مثيراً للسجال من الناحية السياسية، إذ يقول بعض خصومه عنه انه كان ستاليني النزعة، مرتبطاً بالكا.جي.بي الاستخبارات السوفياتية، الى درجة انه ساهم، حين كان يعمل في سفارة بلده في المكسيك بتسهيل تحرك القتلة الذين أرسلهم ستالين لاغتيال تروتسكي عام 1940. غير ان هذا لا يقلل بالتأكيد من القيمة الفنية لصاحب"النشيد الشامل"وپ"حجارة الشيلي حجارة السماء"وپ"إسبانيا في القلب"وغيرها من مجموعات شعرية أعطت الشعر النضالي في العالم نكهة جديدة. [email protected]