مقاسات بالسنتيمترات مخطوطة بقلم رصاص على حائط الدرج الملاصق لغرفته هي آخر ما كتبه ليث قبل أن يحكم ربط سلك الهاتف حول عنقه، وينهي حياته لمجرد أنه رسب في امتحان الثانوية العامة، مخلفاً أسئلة مفتوحة تنغص عيش أفراد أسرته وأصدقائه. لُقّب ليث بمعالي الوزير، والحقيقة أن اللقب لم يأت من فراغ بحسب رفاقه. فالشاب الذي لم يزد عمره عن ثماني عشرة سنة كان يتمتع بشخصية قيادية عززتها ثقة ذويه ومعلميه فيه. ويقول صديقه طارق الضمور:"حظي ليث باحترام المحيطين به نظراً لكونه شاباً متعاوناً، واجتماعياً، وملتزماً، فضلا عن أنه طموح". وخطط ليث لدراسة الطب أو الهندسة في مصر، بعد اجتيازه الثانوية العامة، كما روى طارق. وبحسب قريب له رفض الكشف عن اسمه، كان والدا ليث يعاملانه على أنه رجل يعتمد عليه، إذ كان والده يشركه في اتخاذ قرارات عائلية مصيرية، ويأتمنه على المال والعمل، مشدداً على أن ليث هو الابن المفضل عند الوالدين على رغم أن لديهما أربع بنات، وثلاثة صبيان آخرين. والغريب، أن ليث تصرف بطريقة طبيعية بعد معرفته بأنه رسب بثلاث مواد من أصل سبع تقدم لها. يقول طارق:"تقبل أهل ليث الموضوع بصدر رحب، لم يعنفوه بل على العكس أعطاه والده نقوداً ليشتري ملابس جديدة، ويخرج برفقة أصحابه قبل خوض الدورة الصيفية". ويقسم امتحان الثانوية العامة، وفق نظام الفصول المعمول به، إلى دورتين شتوية، وصيفية يوزع الطلبة مواد السنة الدراسية عليها. في اليوم الموعود، ذكر ليث أمام ابن عمه، الذي أخفق هو الآخر بالتوجيهي، بأنه سينتحر، لكن الأخير لم يأخذ كلام ليث على محمل الجد. وقرابة الثامنة مساء، أعدت الأم العشاء، ونادت على ابنها البكر لكنه لم يجب. كررت النداء وعندما لم يرد صعدت إلى غرفته لترى جسده يتأرجح من السقف. والواقع أن ليث كرر دائماً أنه سينتحر إذا لم ينجح في التوجيهي، غير أن الجميع أخذ تهديده كنوع من الهزل. ويقول طارق:"كنا نضحك عندما يخبرنا بذلك، ونقول له طوّل بالك معاليك، مش مستاهلة"، لافتاً إلى أنه، وبعد ظهور نتائج الدورة الشتوية، عاد ليث ليشدد على فكرة الانتحار حتى أنه اقترح طريقة الحقن بإبرة كاز! وفي هذا السياق يقول استشاري الطب النفسي الدكتور محمد الحباشنة ان المقدم على الانتحار يلمح الى أنه سيفعلها أمام الأهل والأصدقاء. لكنهم عادة لا يأبهون لما يقول ويعتبرونه كلاماً فارغاً، مشدداً على ضرورة ألا تؤخذ التهديدات بالانتحار مأخذ السخرية لأن الشخص الذي يتحدث عن قتل نفسه يكون قد وصل إلى مرحلة نفسية مرهقة تعجز عن مواجهة ما يحيط بها. وتشخيصاً للحالة، يرى حباشنة أن ذويه كما رفاقه عززوا ثقته بنفسه لدرجة المبالغة فلم يقبل على نفسه الفشل. ويقول:"أكد أصحاب ليث أنه كان شخصاً لا يشبه رفاقه وأنه كان يرتدي بذلة رسمية في المدرسة حتى أنهم كانوا يدعونه معالي الوزير، ما يعني أن محيطه ضخم لديه الأنا، وعززها من خلال مخاطبته بكلمات ذات إيقاع يدغدغ توقه للتميز". ويضيف:"جاءت حادثة الرسوب كالصاعقة وبسبب اعتزاز ليث بنفسه عجز عن امتصاص الصدمة. وربما لعب الموروث الاجتماعي الذي يعظم شأن التوجيهي ويحيطه بهالة من الاهتمام دوراً في دفعه على الانتحار". ويرى الحباشنة أن شخصاً كليث لن يتقبل الرسوب في امتحانات الثانوية العامة"مع كل ما تمثله من معان في ذاكرة المجتمع الأردني تجعل النجاح فيه مفتاحاً للنجاح في الحياة"، ويتفق الحباشنة مع ما توصلت إليه المباحث الجنائية من أن ليث لم يكن يخطط للانتحار فعلاً بل أراد أن يثبت لمن حوله أنه عاقب نفسه بالموت عندما قصرت، معتبراً محاولة الانتحار تقنية للدفاع النفسي عن الذات في مواجهة انتقادات قد يواجهها من محيطه. ويضيف"أراد ليث أن يقول للآخرين أنه أكثر غضباً وسخطاً منهم على نفسه". وكشفت التحقيقات أن ليث كان يقيس طوله، وطول سلك الهاتف الذي استخدمه لشنق نفسه ويقارنهما من خلال أرقام وحسابات وعلامات وجدت مخطوطة على حائط غرفته، وكأنه، وبحسب التحقيقات، كان يحاول الوصول إلى طول سلك مناسب يمكنه من الوصول إلى الأرض، وتالياً النجاة من الموت بدليل أن إبهام قدمه وصل الأرض لكنه لم يكن كفيلاً بمنع وفاته. وعلى خلفية الحادثة، تظاهر طلبة مدرسة ليث، محملين وزارة التربية مسؤولية انتحار زميلهم، وموضحين أن الكتب المدرسية وصلتهم متأخرة. وقال الطلاب المتظاهرون إنهم عانوا من نقص المعلمين وعدم قدرتهم على التعامل مع المناهج الجديدة التي طرحتها الوزارة ضمن خطة التطوير التربوي التي تنتهجها منذ عام 2003. واعتبروا أن كل تلك الوقائع عوامل أدت إلى إخفاق ليث وغيره من الطلبة، إذ تشير الإحصائيات في مدرسة ليث التي تضم فرعين أكاديميين من أصل خمسة فروع يتوزع عليها طلبة التوجيهي، الى نجاح 11 طالباً في الفرع العلمي من أصل 30. فيما نجح طالب واحد فقط من الفرع الأدبي الذي تقدم له 30 طالباً أيضاً.