بكل المعايير تبدو خمس سنوات كافية للانتقال الى مرحلة بناء الدولة العراقية بعد انهيارها المدوي في التاسع من نيسان ابريل 2003، يوم تحول اطاحة تمثال صدام حسين الكائن في ساحة الفردوس وسط بغداد رمزا لسقوط نظامه التوتاليتاري وميلاداً لما بات مألوفا تسميته ب"العراق الجديد". ويمكن اعتبار الموقف الذي اتخذه المجلس السياسي العراقي في اجتماعه الأخير 5/4/2008، الذي عقده في أعقاب العمليات العسكرية في البصرة، تطورا مهما في اتجاه التأسيس المطلوب لبناء الدولة على صعيد خلق الأدوات اللازمة لذلك. سياسياً، يُتوقع ان تأتي الخطوة التالية المهمة قريبا متمثلة في اعادة تشكيل حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي بعودة"جبهة التوافق"و"القائمة العراقية"التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي. هل هذا تقويم واقعي أم مجرد تمنيات؟ يُشار اولا الى أن المجلس السياسي، الذي اتفقت الكتل السياسية الحاكمة على تأسيسه بعد الانتخابات العامة في 2005، هو هيئة ذات صلاحيات استشارية للاشراف على السياسة العامة للدولة من دون تجاوز صلاحيات السلطتين التنفيذية والاشتراعية وتضم الكتل البرلمانية البرلمانية الرئيسة، المشاركة في الحكومة وغير المشاركة فيها. ويكتسب المجلس، الذي يرأسه رئيس الجمهورية وفي غيابه رئيس الوزراء، أهميته من كونه مؤلفا من الرئاسات الثلاث رئيس الجمهورية ونائبيه ورئيس البرلمان ونائبيه ورئيس الوزراء ونائبيه، إضافة الى رؤساء الأقاليم حاليا هناك اقليم كردستان وحده وزعماء الكتل السياسية الممثلة في البرلمان المجموع 19 عضوا. في القرار الصادر عن اجتماع المجلس الأخير، الذي عقد بمشاركة جميع أعضائه، خرج التيار الصدري وحده عن الإجماع برفضه قبول تحفظ عن الفقرتين 2 و4 من مجموع 15 فقرة تألف منها القرار. الفقرة 2 تنص على ما يلي:"الوقوف بحزم مع الحكومة واجهزتها الامنية المختلفة في تصديها للميلشيات والخارجين عن القانون أيا كان انتماؤهم، وتثمين الدور الذي قامت به القوات المسلحة في فرض الامن والنظام في البصرة وبقية المحافظات". اما الفقرة 4 فنصها:"الدعوة لكافة الاحزاب والكيانات السياسية بحل ميليشياتها فورا وتسليم اسلحتها للدولة والتحول الى النشاط المدني السلمي كشرط للاشتراك في العملية السياسية والانتخابات". موقف التيار الصدري يعني أنه وضع نفسه خارج القانون علما أن هناك أدلة واضحة على انه غير موحد، الأمر الذي حمل المالكي، المستند الى دعم المجلس السياسي، بإنذار التيار الصدري بضرورة حل جيش المهدي وفي حال رفضه سيقصى التيار من العملية السياسية ويمنع من المشاركة في اي انتخابات مقبلة، عامة او محلية الحل بالحل، على حد تعبير المالكي. الوضع السياسي في العراق يتحرك كما تتحرك الكثبان الرملية. تحرك المالكي لمواجهة جيش المهدي وغيره من ميليشيات، متفرعة عنه او متمردة عليه، وأخرى لا تخضع له، أدى الى اجماع نادر لدعم المالكي، بما فيه قوى شيعية وسنية، كانت تخطط حتى وقت قريب لإقصائه. نائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي أوضح في مقابلة مع التلفزيون العراقي أن"الخطوة الصحيحة توحد"، في إشارة الى الدعم الذي حظي به المالكي إثر عمليات البصرة. علما أن العمليات لا تقتصر على البصرة، بل تتجاوزها الى محافظات أخرى في الجنوب والى بغداد نفسها، تحديدا في مناطق عدة تعتبر معاقل لجيش المهدي وميليشيات شيعية اخرى كمدينة الصدر والكاظمية والشعلة وغيرها. في البصرة نفسها استعادت القوات الحكومية السيطرة على موانىء البصرة التي كانت تتحكم بها الميليشيات وعلى المباني والمؤسسات والشوارع الرئيسية وبدأت الحياة تعود الى بعض طبيعتها في معظم المدينة. "الخطوة الصحيحة"تبعتها خطوات صحيحة من الجانب السني ممثلا بجبهة التوافق لجهة الحصول على دعم من الجوار العربي لمواقف الحكومة. فقد دعا بيان عن الجبهة قرأه عز الدين الدولة، أحد نوابها في البرلمان، دول الجوار الى"ايقاف دعمها للميليشيات المسلحة داخل العراق وصرف الأموال التي تقدمها لتلك المجاميع في دعم العراق وإغاثة العوائل العراقية بدلا من السعي الى تفرقة الصف العراقي ومد يد العون والمساعدة ونشر التناحر بين العراقيين". نائب آخر عن الجبهة هو طه الليهيبي ذكر الجوار بالاسم حين اعتبر أن"الدول العربية ليس لها دور إيجابي في العراق وإنما سلبي، وأعرب عن امله بأن تحد تلك الدول من تدخلاتها الإقليمية في الشأن العراقي وأن كثيرا منها لم تفتح سفاراتها في العراق في الوقت الذي ترى فيه ان دول الاتحاد الأوروبي لها تمثيل ديبلوماسي في العراق من خلال سفاراتها وملحقياتها". كأن هذا الموقف هو تأكيد للالتزام بالفقرة 10 من بيان المجلس السياسي:"إدانة التدخل الخارجي في الشأن العراقي ودعوة المجتمع الدولي لمساعدة العراق في ردع الدول المجاورة التي ما زالت تتدخل في شؤونه الداخلية وتعمل جاهدة على زعزعة استقراره وأمنه". ما سلف يشكل تطورا مهما في موقف جبهة التوافق، الأمر الذي يحتم الآن على رئيس الوزراء أن يستجيب بمرونة بالغة لمطالب الجبهة، المشروعة في الواقع، تمهيدا لعودتها بصورة فاعلة الى التشكيلة الوزارية المعدلة. من هذه المطالب أن تدعم الحكومة بقوة تنفيذ الفقرة 12 من بيان المجلس السياسي الداعي الى"الاسراع بتعديل الدستور"، كما نص عليه الدستور في أحكامه التكميلية. الى ذلك كان المجلس السياسي واضحا في دعم هذا الاتجاه بحسب الفقرة 8 من بيانه: الدعوة الى اعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية على اسس صحيحة متفق عليها وطنيا وحث الكيانات السياسية المنسحبة على اختلافها على اعادة النظر بموقفها في العودة العاجلة للحكومة". فقرة مهمة أخرى في بيان المجلس تنبغي الاشارة اليها هي الفقرة 13:"الغاء كافة التنظيمات القضائية غير الشرعية والاحتكام حصرا الى السلطة القضائية الرسمية، ومنع فرض الاتاوات والضرائب خارج اطار الاجهزة الحكومية المعنية". للتوضيح، فرض التيار الصدري محاكمه الشرعية الخاصة في المناطق الخاضعة لجيش المهدي الذي منع السكان في هذه المناطق من مراجعة أجهزة القضاء الرسمية، علما أن"القاعدة"هي الجهة الوحيدة الاخرى التي فرضت محاكمها الشرعية الخاصة السنية على السكان في المناطق التي سيطرت عليها. نعود الى السؤال المطروح سالفا: هل هذا كله تقويم واقعي أم مجرد تمنيات؟ الجانب الواقعي مبني على أن تطورات ما بعد"خراب"البصرة تجري في الاتجاه الصحيح. يُقال هذا مع الاقرار بأن الرهان على قدرة القيادات السياسية على إظهار الارادة المطلوبة للمضي في طريق بناء الدولة، قد يبقى في باب التمنيات...