بيّن الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة محدودية الموارد الذاتية للكيان الفلسطيني، واعتماده الكلي على الخارج. ومن ناحية أخرى، نبّه هذا الحصار إلى المدى الذي يمكن أن تصل إليه إسرائيل في التضييق على حياة الفلسطينيين، وتهميشهم، وحتى تهديد وجودهم بحد ذاته. ويستنتج من ذلك أن مسألة إقامة كيان فلسطيني لم تعد تقتصر على البعد السياسي، على أهميته، وإنما باتت تشمل المجالين الاقتصادي والأمني، فلا يمكن الحديث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة من دون الأخذ في الاعتبار هذين البعدين. في قطاع غزة، مثلاً، والحال في الضفة ليست أفضل بكثير تتحكم إسرائيل بمعظم الإمدادات من الكهرباء والطاقة والمواد التموينية والطبية، كما تتحكم بالنشاط التجاري وبحركة الناس على المعابر، إلى الضفة أو إلى مصر. وتزوّد اسرائيل القطاع مثلاً بما يعادل 80 في المائة من التيار الكهربائي و100 في المئة من الوقود و70 في المئة من الماء و100 في المئة من الوقود الذي يشغل المحركات الكهربائية، التي تشغل بدورها آليات رفع الماء من الآبار الارتوازية. پومعلوم أن"الكيان الفلسطيني"، منذ نشوئه بموجب اتفاق أوسلو 1993، ظلّ يعتمد في إدارة شؤونه، وتأمين متطلبات استمراره، على الموارد المالية الخارجية، التي تأتي من ما يعرف بالدول المانحة الداعمة للسلام مع إسرائيل، كما من الاقتطاعات الضريبية التي تجبيها إسرائيل عن السلع الداخلة الى مناطق السلطة.وتفيد بيانات وزارة المالية الفلسطينية للعام 2006، مثلاً، بأن كتلة الرواتب في السلطة، تعادل مبلغاً قدره 1.2 بليون دولار تقريباً، منها 678.19 مليون دولار للمدنيين، و502.81 مليون للعسكريين، وذلك من اصل إجمالي النفقات البالغ 1.6 بليون دولار تقريباً، في حين أن صافي الإيرادات المحلية الضريبية وغير الضريبية لم يزد على 351.60 مليون دولار. وبحسب البيانات الرسمية، ثمة 160 ألف موظف لدى السلطة، 81 ألفاً منهم يعملون في القطاعات الحكومية الوظيفية والخدمية، والباقي نصفهم تقريباً! في الأجهزة الأمنية، لعدد سكان يناهز 3.5 مليون في الضفة والقطاع "بمعنى ان هناك موظفاً لكل 24 من الفلسطينيين عموماً. وفي التفاصيل، ثمة موظف مدني، وموظف أمني، لكل 50 فلسطينياً، وهو عدد كبير، ومكلف جداً، بمختلف المقاييس، وللقطاعين المدني والأمني! وهذا يكشف حجم العبء التمويلي الكبير الواقع على كاهل السلطة، إذ أن الكتلة الأكبر من الموازنة تذهب الى الرواتب، وليس للإنفاق على الخدمات أو الاستثمارات. كما يبين ذلك ضعف موارد السلطة المحلية، واعتمادها العالي على الموارد الخارجية. واضح أن السلطة، طوال المرحلة الماضية، لم تستطع توفير مداخيل مناسبة ومستمرة، لتنمية مواردها الذاتية، بسبب المعوقات والحصارات والممارسات التقييدية والتخريبية، التي انتهجتها إسرائيل ضدها وضد المجتمع الفلسطيني، في الضفة والقطاع المحتلين، خصوصاً في السنوات السبع الماضية. ولكن ذلك لا يفسّر تماماً الوضع المطلق من الارتهان للخارج، ذلك أن السلطة اتجهت أيضاً، طوال المرحلة الماضية أي منذ قيامها عام 1994، وتحت ضغط اعتبارات سياسية واجتماعية، غير مهنية، نحو: أولاً، توسيع التزاماتها المجتمعية، بتضخيم جهاز الموظفين لديها، بمن فيهم الموظفون في الأجهزة الأمنية، لاعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية، تتعلق باستيعاب أعداد كبيرة من المنضوين في العمل الفصائلي في مرحلة ما قبل قيام السلطة، وثانياً، امتصاص القادمين الجدد من المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع إلى سوق العمل، وثالثاً، تأمين متطلبات عيش قطاع واسع من الفلسطينيين الذين يعانون إجراءات التهميش والحصار والتخريب الإسرائيلية، التي تفاقمت منذ اندلاع الانتفاضة أواخر عام 2000، خصوصاً مع وجود حوالي 600 حاجز في الضفة، وانخفاض الإنتاج بنسبة 40 في المئة للفرد بالقياس للعام 1999، وازدياد نسبة الفقر، وارتفاع نسبة البطالة إلى ما يقارب 23 في المئة من القوة العاملة في الأراضي المحتلة، علماً أن نسبة البطالة في قطاع غزة باتت تزيد على 50 في المئة. ويمكن الاستنتاج من كل ما تقدم أن السلطة الفلسطينية باتت بمثابة معيل كبير للمجتمع الفلسطيني، بدلاً من أن يقوم هذا المجتمع بتمويل سلطته، أو تأمين الجزء الأكبر من موارد دولته المفترضة، التي يتّضح أنها تفتقد الإمكانات الذاتية اللازمة لقيامها واستمرارها وتطورها. ولا شك في أن هذا الوضع يخلق تداعيات كبيرة وخطيرة على الخيارات السياسية للسلطة، التي باتت أمام شعبها مطالبة بالشيء ونقيضه: الاستمرار في تقديم مستحقات"الإعالة"الشهرية، من جهة، وفي مواجهة الاملاءات الخارجية، وضمنها الإسرائيلية، التي لا تتلاءم مع الحقوق الفلسطينية، بشكلها الناجز، من جهة أخرى. وعلى الصعيد الخارجي باتت هذه السلطة رهينة متطلبات الدول المانحة في العديد من القضايا السيادية، وضمنها إنهاء المقاومة والعنف محاربة الإرهاب بالمصطلحات الإسرائيلية، وإدخال تغييرات على شكل السلطة، وعلاقاتها الداخلية، تحت بند ما يعرف بإصلاح المؤسسات الفلسطينية. ويبدو أن"حماس"عندما أخذت الحكومة، ثم عندما هيمنت على قطاع غزة، لم يكن في حسبانها هذا الوضع المعقد، ولم تهيئ نفسها للتعامل معه، فليس ثمة موارد مالية لتغطية الرواتب، وثمة اعتماد عال على الامدادات التي تأتي من إسرائيل الكهرباء، الطاقة، المياه، فضلاً عن أن إسرائيل تتحكم بكل واردات السلع للأراضي المحتلة! واللافت أن"حماس"تطالب باستمرار الدول المانحة بتقديم الدعم المالي، وتطالب إسرائيل بالسماح بتدفق الامدادات الحيوية، في وقت تجاهر فيه بمعارضتها لعملية السلام، وبتبني سياسة تقويض إسرائيل، بما في ذلك الاستمرار بعمليات القصف الصاروخي، من القطاع المحاصر. ومعلوم أنه كلما تقلصت قدرة كيان ما، أو دولة، عن تأمين مواردها الذاتية، وكلما زاد اعتمادها على الموارد الخارجية، كلما تهيأت مسبقاً للتفريط بجزء من سيادتها، والخضوع للاملاءات الخارجية. لذا فالبديهي أن تقيّد كل هذه المتطلبات والارتهانات السلطة، وتضعها في وضع إشكالي وحرج على كل الصعد الداخلية والخارجية، وفي مواجهة إسرائيل، بغض النظر عن حقيقة توجهاتها أو خياراتها أو رغباتها. والأخطر من ذلك ربما أن هذه الأحوال شوشت على طبيعة القضية الفلسطينية، بتحول القوى الفلسطينية من حركة تحرر وطني من الاستعمار والاستيطان الصهيوني، إلى مجرد حركة تتطلع لتأمين متطلبات العيش لشعبها، وتحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى قضية اقتصادية، وتحويل الاهتمام من مسألة إنهاء الاحتلال، إلى مسألة تأمين لقمة العيش للفلسطينيين، بغض النظر عن حقوقهم السياسية والوطنية. هكذا ربما يصح الاستنتاج أن الاستمرار في طرح مسألة الدولة المستقلة لم يعد ذا بال، لأن الفلسطينيين يمكن أن يأخذوا ضمن معطيات وشروط معينة مثل هذه الدولة، ولكنها لن تكون قابلة للحياة من دون هذه الدرجة العالية من الاعتماد على إسرائيل والدول المانحة، بالنظر إلى شحّ مواردها، ما يفرّغ الدولة المفترضة من مضمونها الوطني والسيادي. هكذا ربما آن للفلسطينيين أن يوسعوا خياراتهم، أو أن يبحثوا عن خيارات أخرى اكثر جدوى. * كاتب فلسطيني.