في صربيا الآن أزمة من نوع جديد يمكن أن تؤثر سلباً في صورتها القاتمة أصلاً لدى المسلمين في الجوار البلقان نتيجة ما يحدث الآن من صراع بين المسلمين في صربيا بسبب تداخلات سياسية محلية وإقليمية. يمكن القول ان جذور المشكلة تعود إلى صيف 2006 حين استقلت جمهورية الجبل الأسود، إذ انقسم المسلمون بين الدولتين المتجاورتين بعد انفراط اتحاد صربيا والجبل الأسود، ولذلك أصدرت صربيا في 2006"قانون الكنائس والجماعات الدينية"الذي نصّ على وجود هيئة واحدة تمثل كل ديانة أمام الدولة الكنيسة الصربية الأرثوذكسية، الجماعة الإسلامية الخ. وبناءً على ذلك، تشاورت قيادات المسلمين في صربيا لتشكيل هيئة هرمية واحدة، ولكن الأمر آل إلى الخلاف والانقسام بسبب العوامل السياسية. فالمسلمون في صربيا عددهم أكثر من 500 ألف يتوزعون بين الشمال بلغراد وضواحيها وبين الجنوب السنجق ووادي بريشيفو، وهم في غالبيتهم من البشناق 400 ألف والألبان نحو 100 ألف. ولكن الاختلاف على المناصب، ودور بعض مراكز القوى في بلغراد أديا بقسم من قيادات المسلمين إلى المسارعة في شباط فبراير 2007 الى عقد اجتماع في بلغراد والإعلان عن تشكيل"الجماعة الإسلامية لصربيا"بقيادة"رئيس العلماء"آدم زلكيتش، وپ"انتخب"أيضاً الشيخ محمد يوسف سباهتيش لمنصب"مفتي صربيا"الذي كان شغله والده الشيخ حمدي يوسف سباهتيش، وكان الهدف من الإسراع في تشكيل الجماعة ان تحظى بالسبق وتسجل نفسها في وزارة الأديان باعتبارها الهيئة التي تمثل المسلمين في صربيا. إلا أن غالبية قيادات المسلمين انزعجت من هذا التصرف ودعت إلى"مجلس توحيدي"عقد في نوفي بازار خلال 27-28 آذار مارس 2007 في حضور كثيف لممثلي المسلمين في الدول المجاورة البوسنة والجبل الأسود ومقدونيا الخ الذين أعطوا بحضورهم الشرعية مسبقاً لهذه البادرة. وتمخض هذا الاجتماع، الذي حظي باهتمام إعلامي كبير، عن تشكيل"الجماعة الإسلامية في صربيا"تمييزاً لها عن الأولى برئاسة الشيخ معمر زوكورلتيش. وكان من اللافت حضور"رئيس العلماء"في البوسنة د. مصطفى تسريتش خصيصاً إلى صربيا في"زيارة تاريخية"بهدف المشاركة في هذه المناسبة. واستقبله آنذاك رئيس الجمهورية بوريس تاديتش في خطوة كان يمكن أن تؤدي إلى عملية تصالحيه تاريخية بين الصرب والبشناق، وبين صربيا ومحيطها البلقاني المسلم. وعلى عكس تاديتش الذي يمثل في صربيا الاتجاه الديموقراطي المنفتح على أوروبا، كان الطرف القومي الذي يمثله رئيس الحكومة فويسلاف كوشتونيتسا يعمل في الاتجاه المعاكس عبر دعمه الهيئة الأولى الجماعة الإسلامية لصربيا التي اتخذت من بلغراد مركزاً لها، في حين اتخذت الثانية الجماعة الإسلامية في صربيا من نوفي بازار مركزاً لها حيث يوجد الثقل المسلم. وهكذا لم يعد الفرز المتزايد في صربيا بين الاتجاهين العريضين، الذي يمثل الأول منهما تاديتش والثاني كوشتونيتسا، يوفر حتى المسلمين للاستحواذ على النفوذ والاستعداد للانتخابات الرئاسية في مطلع 2008 التي فاز فيها تاديتش بفارق بسيط. وللأسف، فإن الشحن من الخارج بين الهيئتين أدى إلى ما هو أسوأ في آذار الجاري، إذ انتقل الخلاف من تراشق الكلام إلى استخدام السلاح. ففي يوم الجمعة 10 آذار كان أعضاء"الجماعة الإسلامية في صربيا"يستعدون في مدينة توتين Tutin في السنجق لإعداد مكان لوضع الحجر الأساس لمدرسة إسلامية للبنات حين اقترب منهم أفراد تابعون لپ"الجماعة الإسلامية لصربيا"لمنعهم من ذلك بحجة أن الأرض تعود إليهم وتحول الخلاف إلى تبادل لإطلاق النار سقط معه جريحان من"الهيئة الإسلامية في صربيا". وكان لهذا التطور، الذي أشاع التوتر بين المسلمين في منطقة السنجق، صداه الكبير في صربيا وخارجها، إذ ساهم في إحداث مزيد من التوتر بين صربيا والبوسنة. فقد حملت رئاسة العلماء في سراييفو السلطات الصربية مسؤولية"الاعتداء الوحشي للشرطة الصربية على الإمام والمسلمين"في مدينة توتين، ودعت المنظمات الدولية المعنية الى الاحتجاج على"الانتهاك الصارخ لحقوق المسلمين في صربيا"، كما دعت حكومة بلغراد الى"أن تكف عن تقسيم المسلمين في السنجق"، وهو ما أدى إلى احتجاج رسمي من وزارة الأديان باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية لصربيا. ولكن كان من الملاحظ أن الصحافة الصربية تعاملت مع الأمر بحسب ميولها السياسية. فالصحافة الديموقراطية فسحت المجال للآراء التي تربط ما حدث من انقسام بين المسلمين مع ما يقابله من انقسام في صربيا بين الاتجاهين الرئيسين في البلاد اتجاه تاديتش واتجاه كوشتونيتسا. وهكذا فقد اتهم سعاد بيبروفيتش مع مجموعة من المثقفين عدد 15/3/2008 رئيس الحكومة فويسلاف كوشتونيتسا بالإسهام في هذا النزاع بين المسلمين وذلك لدعم حليفه سليمان أوغليانين رئيس"حزب العمل الديموقراطي للسنجق". وفي هذا الاستطلاع حذر المستشرق الصربي داركو تانا سكوفيتش من خطورة ما يحدث على اعتبار أنه قد يترك نتائج سلبية على المدى الطويل. لكن أهم نقد للحكومة الصربية جاء في مقالة لفلايديمير اليتش في جريدة"داناس"عدد 18/3/2008 اعتبر فيها أن الحكومة الصربية"سقطت في الامتحان"بسبب تصرفها مع هذا الموضوع الحساس. فقد أوحت لطرف ما أنها ستقبل بوجوده ممثلاً للمسلمين، مع أنها لم تسجل ذلك رسمياً في وزارة الأديان، ثم تعاملت مع النزاع المتفاقم بحيادية كأن الأمر لا يهمها بينما كأن يجب أن تتدخل وتتوسط قبل أن يتفاقم الأمر ويصل إلى ما وصل إليه. ويبدو الآن أن ما كان يجري في الخفاء لدعم طرف دون آخر كان لأجل حسابات معينة كشف عنها الإعلان عن استقلال كوسوفو. ففي حين تعاملت"الجماعة الإسلامية في صربيا"مع الأمر بإيجابية بعد أن خرج"رئيس العلماء"مصطفى تسريتش الذي تعتبره المرجع الأعلى على قناة"الجزيرة"في اليوم التالي 18/2/2008 وأيد استقلال كوسوفو، جرت"الجماعة الإسلامية لصربيا"في الاتجاه المعاكس تماماً. إذ دان"مفتي صربيا"الشيخ محمد يوسف سباهتيش استقلال كوسوفو وطالب دول العالم الإسلامي بألا تعترف بهذا الاستقلال. وتبلور هذا الموقف أكثر حين عقد في الأسبوع الماضي المؤتمر العشرون للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، حيث دعي الشيخ سباهيتش بصفته"مفتي صربيا"بينما غاب الشيخ زوكورليتش الذي يمثل غالبية المسلمين في صربيا والشيخ نعيم ترنافا مفتي كوسوفو. وفي هذا المؤتمر كان هناك مشروع قرار لتأييد استقلال كوسوفو، الا أن الشيخ سباهيتش عارض ذلك بشدة على أساس انه يؤدي الى"تعريض 800 ألف مسلم يوجدون داخل صربيا للخطر"! وإذا كان الأمر مفهوماً في بلغراد بسبب الصراع على السلطة بين الاتجاهين الرئيسين تاديتش وكوشتونيتسا، الذي ينعكس على المسلمين كما رأينا، فإن الأمر لا يعود مفهوماً حين تشارك بعض الدول العربية في ذلك فتعترف بهذه الجهة أو تتجاهل تلك. وبعبارة أخرى يخشى أن تكون الدول العربية المتحفظة عن استقلال كوسوفو ساهمت بالاعتراف بپ"الجماعة الاسلامية لصربيا"وبپ"مفتي صربيا"وتجاهلت"الجماعة الإسلامية في صربيا"التي تمثل في الواقع غالبية المسلمين هناك. وكما كان من الأفضل، كما ذهبت الصحافة الصربية، أن تتدخل الحكومة الصربية وتتوسط لانتخاب هيئة واحدة تمثل المسلمين أمام الدولة في صربيا، فإن من الأفضل أيضاً للدول العربية أن تسعى في هذا الاتجاه وألا تعمق الانقسام بين المسلمين في صربيا الذي ستكون له نتائج سلبية بعيدة المدى، كما قال المستشرق تاناسكوفيتش.