يتميز المسلمون في البلقان بتراث مؤسسي فيما يتعلق بتمثيلهم أمام الدولة التي يعيشون فيها. وكان المسلمون في البلقان حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر جزءاً من الدولة العثمانية، ولكن بعد احتلال النمسا المجر للبوسنة في 1878م نشأت الحاجة الى وجود هيئة أو هرمية تمثيل المسلمين أمام الدولة الجديدة غير المسلمة. وهكذا بعد تجاذب بين نخبة المسلمين أو العلماء ulema حسب التعبير المحلي، وبين الدولة الجديدة قام الامبراطور فرانس جوزف في تشرين الثاني 1882 بتعيين مفتي البوسنة مصطفى حلمي عمروفيتش على رأس الهيئة - الهرمية الجديدة بلقب"رئيس العلماء"، وغدت هذه الهيئة - الهرمية تمثل المسلمين أمام الدولة التي كانوا قد قاوموا احتلالها البوسنة في 1878. وفي نهاية 1918 أصبحت البوسنة جزءاً من الدولة الجديدة يوغسلافيا التي تضم مسلمين من شعوب عدة السلاف والألبان والأتراك، ولكن تمثيل المسلمين في هيئة - هرمية واحدة أمام الدولة لم يكتمل إلا في كانون الثاني 1930 بإصدار الملك الكسندر لپ"قانون الهيئة الدينية الإسلامية". وكان الملفت للنظر أن القانون نصّ على نقل مقر"رئيس العلماء"من سراييفو الى بلغراد عاصمة الدولة التي أصبح المسلمون يمثلون حوال 11$ من سكانها. وبعد تشكّل"يوغسلافيا الفدرالية"في 1945 تحت حكم الحزب الشيوعي جرت"فدرلة"الهيئة - الهرمية بعد تعديل اسمها ليصبح"الجماعة الإسلامية يوغسلافيا"، حيث أصبحت تتكون من أربع مشيخات تتناسب الى حد ما مع الطابع الفيديرالي - القومي: مشيخة البوسنة وكرواتيا وسلوفينيا ومقرها سراييفو، ومشيخة الجبل الأسود ومقرها تيتوغراد، ومشيخة مكدونيا ومقرها سكوبيه، ومشيخة صربيا وكوسوفو وفويفودينا ومقرها بريشتينا. وفي الاتجاه المعاكس أيضاً، أي مع انفراط يوغسلافيا في 1991، بدأ انفراط هذه الهيئة - الهرمية مع سعي كل جمهورية الى الاستقلال عن يوغسلافيا حيث بقي آخر"رئيس للعلماء"يعقوب سليموفسكي من دون جماعة يمثلها بعد أن تحول كل رئيس مشيخة الى رئيس مستقل. وفي هذا الإطار فقد حاولت بلغراد بعد إلغاء الحكم الذاتي في كوسوفو خلال 1989 نقل مركز الهيئة - الهرمية من بريشيتنا حيث غالبية المسلمين من الألبان المعارضين للحكم الصربي الى بلغراد لتكون تحت سيطرتها. وفي هذا السياق حاولت بلغراد إبراز إمام"جامع البيرق" في بلغراد وهو الوحيد الذي بقي في المدينة ومفتي الجماعة المسلمة فيها الشيخ حمدي يوسف سباهيتش ليكون له دوره في هذا المجال. ولكن رئاسة الهيئة - الهرمية في بريشتينا ردت على ذلك بقرار في 30/7/1991 بپ"عزل حمدي يوسف سباهيتش كمفتٍ للجماعة المسلمة في بلغراد". إلا أن الشيخ يوسف سباهيتش لم يذعن للقرار، ثم جاءت حرب البوسنة 1992-1995 وبعدها حرب كوسوفو في 1999 لتباعد بين الشيخ يوسف سباهيتش الذي ولد ونشأ في البوسنة وبين زعامة المسلمين في البوسنة وكوسوفو، حيث اعتبرت مواقف يوسف سباهيتش ممالئة لنظام ميلوشيفيتش. وفي غضون ذلك كانت المشيخة الإسلامية في كوسوفو قد استقلت باسم"الجماعة الإسلامية لكوسوفو"في أواخر 1993 بعد إعلان استقلال كوسوفو من جانب واحد وانتخاب إبراهيم روغوفا رئيساً، ولكن بلغراد أصبحت تعترف لاحقاً بالشيخ يوسف سباهيتش"مفتي صربيا"طالما هو على وفاق معها. ولكن"سلطة"الشيخ يوسف سباهيتش لم تكن تتجاوز بلغراد كثيراً لأن غالبية المسلمين في صربيا تتمركز في منطقتين خارجتين عن سلطته: اقليم السنجق ومنطقة بريشيفو. فقد كان المسلمون البشناق في السنجق على اتصال وثيق بالهيئة - الهرمية الموجودة في البوسنة التي برز على رأسها آنذاك"رئيس العلماء"د. مصطفى تسريتش ورفض صريح ل"رئاسة"الشيخ يوسف سباهيتش بسبب مواقفه المعروفة خلال حرب البوسنة، ولذلك فقد أعلنوا في 1993 ارتباطهم الروحي والمؤسسي بالهيئة - الهرمية الموجودة في سراييفو. من ناحية أخرى بقي المسلمون الألبانيون في منطقة بريشيفو المجاور لكوسوفو على تواصلهم مع"الجماعة الإسلامية لكوسوفو"التي أصبح رئيسها د. رجب بويا. ومع ذلك فقد نجح الشيخ يوسف سباهيتش في اختراق محدود لهذه الجماعة حين تمكن من استقطاب الشيخ جمال حساني الى صفّه بينما بقيت الغالبية التي يمثلها الشيخ مؤمن طاهري على ارتباطها بالهيئة - الهرمية الموجودة في كوسوفو. ومع سقوط نظام ميلوشيفيتش في خريف 2000 انشغلت بلغراد لاحقاً في الخلاف مع الجبل الأسود الذي كان له مغزاه بالنسبة الى المسلمين. فمع استقلال الجبل الأسود في حزيران 2006 انقسم السنجق بدوره بين الجمهوريتين وتحولت جمهورية الجبل الأسود الى دولة ربع مسلمة بعد أن أصبح المسلون فيها يمثلون حوالي ربع السكان. وفي المقابل كان على صربيا أن تتكيف قانونياً مع الوضع الجديد. وهكذا فقد صدر في صيف 2006"قانون الكنائس والجماعات الدينية"الذي أقر بوجود"جماعة إسلامية"واحدة تمثل المسلمين أمام الدولة. وتجدر الإشارة هنا الى أنه بعد فصل كوسوفو عن سيادة صربيا في حزيران 1999 واستقلال الجبل الأسود في حزيران 2006 أصبح عدد المسلمين في صربيا حوالى نصف مليون يعيش معظمهم في السنجق حوالى 250 ألفاً ووادي بريشيفو حوالى مئة ألف وبلغراد وضواحيها وإقليم فويفودينا. ونظراً الى أن القانون الجديد أصبح يحتم وجود هيئة -هرمية واحدة تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم الدينية والثقافية فقد كان لا بد من مبادرة ما على رغم تباعد المواقف بين"مراكز القوى"الموجودة في المراكز الأربعة نوفي بازار وبريشيفو وبلغراد ونوفي ساد. فقد أدرك الشيخ يوسف سباهيتش أنه لم يعد في الإمكان أن يبقى"مفتي صربيا"في أي مبادرة توحيدية جديدة للمسلمين، ولذلك فقد أخذ يعبر عن قبوله بأن تكون الرئاسة في الهيئة - الهرمية الجديدة دورية. ولكن عدم تجاوب الأطراف الأخرى بسبب الماضي المذكور فقد قام بدعوة بعض الأئمة المؤيدين الى"مجلس"في بلغراد خلال شباط 2007 انتهى الى تكوين هيئة - هرمية جديدة باسم"الجماعة الإسلامية لصربيا"والى انتخابه"رئيساً للعلماء". ومع هذا التصرف لم يعد أمام البشناق والألبان الذين يمثلون غالبية المسلمين في صربيا سوى الرد بالدعوة الى"مجلس توحيدي"لممثلي المسلمين في صربيا يشكل هيئة - هرمية جديدة وينتخب رئاسة جديدة لها. وقد عقد هذا المجلس في نوفي بازار في 27-28 آذار 2007 في حضور أئمة يمثلون 150 مسجداً في السنجق و 70 مسجداً في بريشفو و فويفودينا، وانتهى بتكوين هيئة - هرمية جديدة باسم"الجماعة الإسلامية في صربيا"انتخبت مفتي السنجق الشيخ معمر زوكور ليتش رئيساً لها. ويلاحظ هنا أن"المجلس التوحيدي"الذي عقد في نوفي بازار جرى في حضور كبير من قيادات المسلمين في الجوار البوسنة والجبل الأسود وكوسوفو ومكدونيا ومن العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي لم يحصل في بلغراد في شباط 2007. وقد كان على رأس الحضور رئيس العلماء في البوسنة د. مصطفى تريتش، الذي استقبله بهذه المناسبة الرئيس الصربي بوريس تاديتش. وقد كان لهذا اللقاء مغزاه الكبير، إذ تم في حضور مفتي السنجق معمر زوكور ليتش وانتهى الى التأكيد على أن"عملية تكوين جماعة إسلامية واحدة في صربيا يجب أن تترك للمواطنين المسلمين في صربيا كي يعبروا عما يريدون من دون تدخل من الدولة أو من الخارج". وقد أقر"المجلس التوحيدي"بهذه المناسبة القانون الأساس أو دستور"الجماعة الإسلامية في صربيا"الذي اخذ في الاعتبار أمرين أساسيين: اللامركزية والعلاقة الخاصة مع الجوار. أما الأمر الأول فالمقصود منه أن تنظيم"الجماعة الإسلامية في صربيا"أصبح يعبر عن واقع الحال أو"مراكز القوى"الأربعة في صربيا، حيث قسمت صربيا الى أربع دوائر أو مشيخات على رأس كل واحدة مفتتٍ: السنجق وبريشيفو وفويفودينا وبلغراد وضواحيها. وقد ترك للمشيخة في كل دائرة صلاحيات واسعة، كما اعترف لها بالحق في اقامة"علاقة خاصة"مع الهيئات - الهرميات الإسلامية في الجوار، أي مع البوسنة بالنسبة الى السنجق ومع كوسوفو بالنسبة الى بريشيفو. ويلاحظ من ناحية أخرى في زعامة الهيئة - الهرمية الجديدة أن النائب الأول فكرت ليماني اختير من بريشفو والثاني ضياء زكير من فوديفودينا وترك لبلغراد أن ترشح من يشغل النائب الثالث للرئيس معمر زوكورليتش. ولكن القيادة الجديدة ل"الجماعة الإسلامية في صربيا"أرادت في الوقت نفسه أن تترك الأمر مفتوحاً للمستقبل، حيث أعطت لنفسها سنة واحدة فقط على أن يعقب ذلك انتخابات لاختيار رؤساء المشيخات في الدوائر الأربع الذين يختارون بدورهم الرئيس الجديد لپ"الجماعة الإسلامية في صربيا". إلا أن"الجماعة الإسلامية لصربيا"في بلغراد رفضت المشاركة في"المجلس التوحيدي"ورفضت الاعتراف بكل ما تمخض عنه، حيث صرح الشيخ عبدالله نعمان نائب"رئيس العلماء"في بلغراد يوسف سباهيتش أن الشيخ يوسف سباهيتش هو"المفتي وهو رئيس العلماء سواء أعجبهم ذلك أم لا". والمهم هنا موقف الدولة وبالتحديد وزارة الأديان في صربيا التي أصبحت أمام هيئتين - هرميتين تدعي كل واحدة تمثيل المسلمين. وقد ذكر وزير الأديان ميلان رادولوفيتش بهذه المناسبة انه لا يمكن أن توجد في صربيا سوى هيئة - هرمية واحدة تمثل المسلمين، وترك الباب مفتوحاً بالقول إن الوزارة"تعترف وتحترم حق المسلمين في صربيا في أن يكون لهم هيئة منظمة مستقلة عن الدولة وعن الجماعات الإسلامية الأخرى"جريدة"داناس"البلغرادية 29 /3/ 2007. ولا شك في أن الشهور المقبلة ستحسم هذا الأمر بما يحظى به كل طرف. فالاعتراف الاقليمي من الهيئات - الهرميات الرسمية التي تمثل المسلمين في الدول المجاورة محسوم لصالح الهيئة - الهرمية التي تتخذ من نوفي بازار مقراً لها، وهو يساعد على الاعتراف بها في العالم الإسلامي. وطالما أن الأمر يتعلق بسنة واحدة فقط فإن الانتخابات القادمة ستحسم أخيراً الأمر لصالح هيئة - هرمية ذات مصداقية تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم الدينية والثقافية بروح جديدة. * مدير مركز دراسات العالم الإسلامي - جامعة آل البيت - الاردن