بدأ دور صناديق الثروة السيادية، وهي أدوات استثمار واسعة النطاق مملوكة للدول، في الهيكلية المالية العالمية، يتصدر قائمة الأولويات في جداول الأعمال السياسية في أوروبا والولاياتالمتحدة. وأبدى الأميركيون والأوروبيون قلقهم حيال التأثيرَين الاقتصادي والسياسي اللذين قد تمارسهما الحكومات الأجنبية من خلال صناديق الثروة السيادية. ومنذ بضعة شهور، دار جدال محموم في الأوساط العامة الغربية حول كيفية التعامل معها، كنوع جديد من المستثمرين يتحكّم بمصادر مالية ضخمة، فيما تبقى استثماراته شبه سرية وغير واضحة. لكن حكومات عربية قليلة ردّت علناً على هذه المخاوف، وهو أمر غريب، لأن صناديق الثروة السيادية العربية تتمتّع بمراكز متزايدة القوّة في أسواق المال العالمية. بالنسبة إلى المصرف الاستثماري"مورغان ستانلي"، ستزداد رؤوس أموال صناديق الثروة السيادية في العالم من 2.5 تريليون دولار إلى نحو 12 تريليوناً بحلول سنة 2015. وتبرز الصناديق الخليجية العربية بين المراتب العشر الأولى في تصنيف صناديق الثروة السيادية العالمية، وتناهز معاً أكثر من نصف موجودات هذه الصناديق. وأقرّ القادة السياسيون في الغرب، أن صناديق الثروة السيادية العربية وغيرها لعبت دوراً مهمّاً في الاستقرار خلال الأزمة المالية الأخيرة. لكن على رغم هذا الدور الإنتاجي الذي اضطلع به مستثمرون سياديّون في الماضي الحديث، انتقل الجدال إلى مرحلة قد تحدد فيها جداول أعمال اللاعبين المختلفين في الغرب ومصالحهم، مدى الحرّية التي سيتمتّع بها العرب والمستثمرون السياديّون الآخرون في التصرّف ضمن الأسواق الأوروبية والأميركية. وبيّنت نتائج اجتماع المجلس الأوروبي في بروكسيل الأسبوع الماضي، مرّة جديدة، حاجة القادة العرب إلى تحديد مواقعهم في هذا الجدال. وتوصل المجلس الأوروبي إلى استنتاج مفاده أن الشفافية المحدودة التي تحيط بصناديق الثروة السيادية، في ما يخصّ إستراتيجيتها وأهدافها الاستثمارية، أثارت قلقاً حيال الممارسات غير التجارية المحتملة. وبالتالي، شدّد المجلس على الحاجة إلى وضع قواعد سلوك طوعية لتحكم صناديق الثروة السيادية. وقد يصبح الموقف الأوروبي أكثر تشدّداً في الأشهر المقبلة مع تسلم فرنسا مقاليد رئاسة الاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من 2008، لأن الرئيس نيكولا ساركوزي في حاجة إلى تسجيل نقاط في الداخل. ووصل الجدال أيضاً إلى الحملة الرئاسية في الولاياتالمتحدة. فقد أعرب المرشح الديموقراطي باراك أوباما عن قلقه من أن تأخذ صناديق الثروة السيادية في الحسبان، مسافات أبعد من اعتبارات السوق. وقالت المرشحة هيلاري كلينتون إن صناديق الثروة السيادية يجب أن تتحلى بشفافية أكبر وطالبت بمراقبة أفضل لها. واقترحت أيضاً أن تُتَّخذ خطوات أكثر صرامة حيال هذا الموضوع. أما المرشح الجمهوري جون ماكين فبقي صامتاً في الوقت الحاضر، لكنّه قد يأخذ موقفاً في الأشهر التالية. كيف سيأتي ردّ الحكومات العربية؟ لا شكّ في أن أمامها خيارات مختلفة. أولها الانتظار لرؤية ما سيأتي به صانعو القرارات الغربيون"ومن الخيارات الأخرى إعادة تركيز استراتيجيات الاستثمار والبحث عن فرص جيّدة في أسواق أقلّ تنظيماً، في آسيا أو أميركا الجنوبية مثلاً. بيد أن أياً من الخيارين لا يبدو جذاباً لأنه يترك مسألة تحديد جداول الأعمال للغرب. لهذا السبب، يعتبر مهماً تطوير إستراتيجية عربية أكثر تركيزاً حيال هذه المسألة. فالصين بدأت في البحث عن أفضل سبيلٍ للدخول في مفاوضات مع الغرب، ويجدر بالقادة السياسيين العرب التشبه بها. وضروري أن نذكر، كنقطة انطلاق، أن الجدال في الغرب حيال صناديق الثروة السيادية لا يقتصر على المستثمرين العرب فحسب. إذ كان، لسلوك اللاعبين الروس والصينيين في الأسواق المالية العالمية، تأثيرٌ حاسم في نظرة الغرب تجاه المستثمرين الآتين من الاقتصادات الناشئة. وقد يكون مفيداً تنسيق المواقف مع اللاعبين الذين يواجهون القيود المحتملة عينها.فضلاً عن ذلك، لا يحظى الغرب بموقف موحّد حيال هذا الموضوع، فالآراء متجزّئة بين القادة السياسيين والمنظّمين ومجتمع الخدمات المالية. وقد يتيحُ هذا الأمر، فرصةً للعرب لبناء تحالفات مفيدة داخل أوروبا والولاياتالمتحدة. والأهمّ من كل ذلك، على الحكومات العربية أن تبدأ في تحديد مواقفها وأن توصلها بعزم أكبر كجزء من عملية مفاوضة آخذة في التطوّر. ويجب أن يشمل الموقف مطالبها، ومساومةً تأتي عليها بالنفع. فاتخاذ خطوات نحو مزيد من الشفافية حيال أهداف الاستثمار وحيال حاكمية صناديق الثروة السيادية العربية، قد يفيدها كثيراً. وقد تعزّز تنازلات مبكرة أيّ مطالب يرغب العرب في طرحها على الغرب. ففي النهاية، ترتكز المفاوضات على تبادل المصالح. ومهما كانت نتيجة الجدال في الأسابيع والشهور المقبلة، ستبقى المسألة في قمّة جدول أعمال العلاقات العربية ? الأميركية - الأوروبية لسنوات طويلة. فنحن نشهد انتقالاً ضخماً في ميزان القوى في النظام الاقتصادي العالمي من الغرب إلى الشرق. ومع ارتفاع أسعار الموارد الطبيعية يوماً تلو الآخر، سيصبح العالم العربي مهماً أكثر فأكثر للاقتصاد العالمي، ليس كمصدّر موثوق للغاز والنفط فحسب، بل كمستثمر مسؤول مع تأثير عالمي. * باحث مساعد في مركز كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت