في العام 1905، وقع خلاف طائفي في جسم الجالية اللبنانية - السورية في نيويورك. واستمر الخلاف لأكثر من عام، وشمل أبناء الجالية في أكثر من مدينة وولاية في المهجر الأميركي الشمالي. وتطور الخلاف الى معركة دموية سقط فيها قتيل من آل اسطفان وعدد من الجرحى. وكان بين المعتقلين المتهمين بالتحريض مطران الأرثوذكس وهو من آل هواويني، وصاحب جريدة"الهدى"السياسي الماروني نعوم مكرزل. وفي حين اعتمد فريق مكرزل صحيفة"الهدى"منبراً لتبرئة الذات واتهام الآخرين، وضع نجيب دياب جريدته"مرآة الغرب"في تصرف فريق الهواويني. ورغم أن صاحب"المهاجر"أمين الغريب ماروني، فقد انحاز في البداية ضد مكرزل، ثم أخذ موقفاً محايداً. وربما يعود الفضل في اتخاذ الموقف المحايد الى جبران نفسه. فقد رفض الأخير منذ البداية أن يقتتل أبناء الجالية الواحدة والوطن الواحد. وعبّر عن رفضه بمقالات عدة ورسوم تمحورت جميعها على مبدأ أن الدين لله والوطن للجميع. كان جبران في بداية نشر سلسلة"دمعة وابتسامة"المصاغة بأسلوب رومانسي. فجأة، قطع السلسلة، وانتقل من الصفحات الداخلية ل"المهاجر"الى الصفحة الأولى، عبر"نداء ورجاء" في 21 تشرين الأول اكتوبر 1905. ولما كان الصحافيون ورجال الدين في طليعة المتقاتلين في الجالية، قال لهم الكاتب:"فديتكم يا قومي، فمنكم من يمثل الدين، والدين أجمل صلة بين الإنسان وربه. ومنكم من يمثل الصحافة، وهي أرقى سبيل الى الترقية. فباسم أي تتباغضون وتتخاصمون؟". بعد أسبوعين، أكمل جبران ما بدأه في ندائه ورجائه، فنشر تحت عنوان"ملاك السلم"كتاباً مفتوحاً وجّهه الى المرأة لأنها"وحدها القادرة، بضعفها، على فتح صدور الرجال واحتلال القلب الذي لم يتحرك إلا من أجلها". وقال الكاتب لكل أم وأخت وزوجة في الجالية:"قومي، فأخوكِ ينسى جميع شرور هذا العالم عندما يرى دمعكِ". ولكن الدمع قد أشعل النار بدلاً من إطفائها. فالمعركة الإعلامية تحولت الى معارك بالسكاكين والعصي. وكانت النتيجة سقوط قتيل وبعض الجرحى. وعاد جبران الى الصفحة الأولى من"المهاجر"عبر نداء جديد بعنوان"قلب الجامعة ونفس الأمة"ظهر في 15 أيار مايو 1906. وأكد الكاتب الشاب في سياق ندائه: ان"كل شيء في هذه الحياة لا يساوي دقيقة محبة". لذلك"تعالوا إذاً نصفح ونتصافح". وكان لهذا النداء صدى بعيد حيث أن أولى الدوريات العربية في الارجنتين"السلام"قد أعادت نشره وفي صدر صفحتها الأولى، وتوّجته بمقدمة قالت فيها:"نشرت جريدة المهاجر للكاتب البليغ جبران أفندي خليل جبران مقالة يصف فيها تأثير الحوادث النيويوركية بأسلوب يصح أن يكون مثالاً للغة النفوس ونبضات القلوب. وبالنظر لما وعته المقالة من آيات البلاغة ورقة الشعور، فقد استنسبنا نقلها الى قراء السلام". وبالفعل، أعيد نشر النداء في السلام بتاريخ 27 حزيران يونيو 1906. بعد أسبوعين، تابع جبران معالجة محنة قومه، ولكن بالريشة هذه المرة. فقد صدر العدد 192 من"المهاجر"في 26 أيار 1906وكامل صفحته الأولى مغطاة برسم"السلام"المذيّل بتوقيع جبران. وبرر الرسام فعلته بعبارة نشرها على ميمنة الرسم وميسرته قال فيها:"ان آذان السوريين أصبحت كليلة من الكلام. فأنا أريد أن أستعطف نواظرهم بالرسوم. لعل ريشة المصوّر أفعل في نفوسهم من قلم الكاتب". وفيما يأتي النصوص الكاملة والمجهولة لمقالات جبران:"نداء ورجاء"،"ملاك السلم"وپ"قلب الجامعة ونفس الأمة". نداء ورجاء بقلم - جبران خليل جبران اسمعوا يا قومي فأرواح جدودنا تنادينا من أعالي لبنان. انظروا فقد بُعث المجد القديم من قبره منادياً أبناءه المتخاصمين. تأملوا فالميت أصبح ينادي الحي. انظروا فقد جاء خيال سورية معاتباً ومذكراً بعهود ألقاها عندما وطئنا تلك الأرض المقدسة وتنفسنا ذلك الهواء النقي. اسمعوا يا قومي فقد أنصت البغض إذ قام الحب خطيباً. يا قومي، جاء الفقير مرتزقاً والتاجر مستزيداً والأديب منقباً باحثاً والكاهن واعظاً ومرشداً فكيف يضمحل الفقر يا حبيبي الفقير وغرض النفس يغل ساعديك! ومن أين تستزيد يا صديقي التاجر وتدخلك يوقف الحركة التجارية. وعمَّ تبحث يا خليلي الأديب وضجيج البغض يملأ الفضاء ومن ترشد يا سيدي الكاهن وروح الشر يسير في الأسواق!... يا قومي. اذكروا ان في أرض جدودنا قوماً أقعدهم الفقر وأعماهم الجهل فهم أحق بمال يستنزفه المتشرّع وأخلق بوقت تستبيحه المحاكم. اعلموا يا قومي ان في صدور المقيمين في سورية آمالاً موقوفة علينا ورجاء معروفاً نحونا. ولا يجمل بنا الاستمساك بسوى تنظيم الأعمال وجليل التعاليم ولا يليق بنا غير التعاضد والوئام. فإن نحن عدنا الى أرض الأنبياء حملنا إليها سر النجاح وإن بقينا في المهجر كنا خير المقيمين. فديتم يا قومي فمنكم من يمثل الدين والدين أجمل صلة بين الإنسان وربه. ومنكم من يمثل الصحافة وهي أوفى سبيل الى الترقي. فباسم أي تتباغضون وتتخاصمون؟ تجارتكم تعانق التوفيق وصحفكم تلاحق الكمال وكلكم يأتون بالعجائب فماذا تبتغون؟ يا قومي أنتم أشرف الناس طينة وأوفرهم كرماً وأجودهم عقلاً فلماذا تتنافرون؟ لماذا يا أحب الناس لماذا؟ استحلفكم يا أبناء سورية بمجد جدودكم العظام. استحلفكم بالمجد المزمع أن يأتي الى بلادكم ان تستبدلوا الخصومات بغصن الزيتون الجميل. استحلفكم يا أبناء سورية بأرز لبنان. أستحلفكم بطيب مياه زحلة. أستحلفكم بماء عيون حمص أن تمزقوا ثوب الظلمة وتلبسوا رداء العيد. استحلفكن أيتها السيدات بالحنو الوالدي والحب الزوجي أن تبتسمن ابتسامة الصفح أمام رجالكن وأن ترفعن أصواتكن العذبة فتسكن ضجة الخصومات. استحلفكن بالقلوب الرقيقة. استحلفكن بالحب المقدس ألا تدعن سم الأفعى يسري في جسم الجالية. ألا تتركن روح الغيظ يسير حول المنازل. استحلفك أيتها الجرائد بنور المعرفة وروح الحرية أن تمحي كلمة الحقد وتكتبي مكانها آية الغفران. استحلفك بمستقبل الأمة أن تكسري قلم المناظرة وتستبدليه بمرقم الوئام. استحلفكم يا قومي بدموع الحياة وابتساماتها أن تحبوا السلام. دمعة وابتسامة ملاك السلم لم يذهب النداء كنفخة في الفضاء. ولا ضاع الرجاء كورقة خريف في مجاري النهر. فالمرأة من وراء الستائر ساهرة مع دموعها وعواطفها تسمع همس القلب البشري وترى خيالات النفس المتصاعدة في سكينة الليل. هوذا ابنة لبنان قد تركت خدرها حاملة غصن الزيتون. المخلوقة اللطيفة قد رفعت صوتها الرقيق لتسكن زمجرة الأسود. هي وحدها القادرة بضعفها على فتح صدور الرجال، واحتلال القلب الذي لم يتحرك إلا من أجلها. أنت وحدكِ يا مجد الرجل. أنتِ وليس سواكِ قادراً أن يجعل الطرد سهلاً والوعر رياضاً. أنتِ يا من حللتُ ضعفك فوجدته قوة واستفسرت قوتك فألفيتها رقة. أنتِ التي جعلتك الأجيال سيدة مطيعة وأمة مطاعة أنتِ التي مررت معطرة بالمر واللبان فغنّى فيكِ سليمان نشيده وتزلفت لأحشورش فخلصت إسرائيل. بشجاعتك أنقذت يهوذا من اليفانا وبقليل من الطيوب اكتسبتِ محبة في قلب الناصري العظيم. أنتِ التي ابتسمت لامرئ القيس فقال: قفا نبكي... وبكيت أمام شكسبير فضحكت الطروس. أنتِ أنتِ بطل روايات هوغو وبيت قصيد نجيب الحداد. أنت تعلمينا المحبة إذا ما عمّت البغضاء وأنتِ ترفعين علَم السلم إذا ما احتبكت السيوف. عيناكِ كحمامتين من تحت نقابكِ وألفاظكِ أحلى من الشهد فبعينيك ودموعهما وألفاظكِ ورقتهما قادرة الآن مثلما كنتِ بالأمس أن تجعلي المستحيل ممكناً والبعيد قريباً. بالأمس استحلفتُ القوم بالمجد المزمع أن يأتي الى بلادهم وأنا لم أقصد غيرك يا ابنة سورية فأنتِ مجد سورية الآتي. قد استحلفتهم بأرز لبنان ومياه زحلة وسهول حمص ورياض الشام فأنتِ أنتِ يا سيدة المهجر التي جعلتِ ذكرى تلك الأماكن جميلة وعذبة ومحبوبة. قد استحلفت الصحف بنور المعرفة وروح الحرية ولم أعنِ إلاّكِ فأنتِ نور المعرفة الذي أنار قلب هوميروس وداود... وروح الحرية الذي أوحى لميرابو وسار أمام واشنطن. استحلفتُ القوم بدموع الحياة وابتساماتها. وما أشرت الى سواكِ فأنتِ دمعة دموع حياتنا وابتسامة ابتسامات عمرنا... هبّي إذاً أيتها القوة الكامنة. قومي أيتها الفتاة فأخوكِ ينسى جميع شرور هذا العالم عندما يرى دمعكِ. تكلمي أيتها الزوجة فرفيقك لا يفضل ضجيج الخصومات على نغمة صوتكِ. نادي أيتها الابنة فوالدكِ يستصغر المال والزمان لدى ندائكِ. قومي يا ملاك السلم وضعي قلبكِ العظيم بين يديكِ وكلامكِ اللطيف على لسانك وإكليل الزيتون على رأسكِ وسيري الى عرين الليث وأنا الكفيل بانتصارك. تكلمي يا كلفورنا لأن القيصر يسمعكِ هذه المرة. أقضي يا بورشا فأنت الشريعة. أنتِ موضوع آمال الإنسانية ومشتكى ضيمها وخزينة أسرارها وباب بيت حياتها... جبران خليل جبران قلب الجامعة ونفس الأمة في شرعي أن الأقوال التي لا تصدر من أعماق القلب لا تؤثر على القلوب، والأعمال التي لا تكسبها النفس لا تجرعها النفوس. فالإنسان مرآة الإنسان والعواطف صدى العواطف ومن أجل ذلك أراني الآن ساهراً أكتب ما يردده قلبي وتشعر به نفسي وحبذا سهر يملأ القلب محبة والنفس انعطافاً ويقرّب الإنسان من قومه ومحبيه. القلب كرة معنوية تحيط بها العناصر وتكتنفها الغيوم وتساورها الحرارة وتثقل قطبيها الثلوج. ولهذه الكرة المعنوية فصول ان تعدت أوقاتها أماتت قوى البذور وأيبست النصوب وأجدبت الحقول وإن ثابرت على نواميسها نفعت وأعطت الأثمار في حينها. والنفس وهي الذات الحقيقية سراج تملأه السماء زيتاً وتشعله الحياة فإن وضع هذا السراج في نافذة البيت ملأ الحي شعاعاً وإن وضع تحت مكيال ينطفئ وتغلبه الظلمة. هذه التشابيه الشعرية لا تختص بالقلب الفرد والنفس الواحدة فهي إذا ما تدبرناها وجدناها حرية بأن تكون مقياساً عاماً لأني تأملت فوجدت أن لكل جامعة قلباً ينبض في صدور كثيرة ولكل أمة نفساً تتمايل في أرواح عديدة. فالجامعة السورية في المهجر ذات قلب واحد ونفس واحدة ومن أجل هذا القلب وهذه النفس أنا ساهر الآن مثل كل سوري أتأمل وأتنهد بمرارة. قلت ان القلب كرة معنوية ذات فصول أربعة شتاء يثور وربيع ينتبه وصيف ينمو وخريف يستغل وقد حسبتُ ان الشتاء الذي داهم قلب الجامعة السورية ثورة أدبية تكسر بعواصفها الأغصان اليابسة وتُرجع الى أديم التراب الأوراق والجذوع الميتة ولكن عندما مر العام وكل فصوله كانت شتاء، قلت قد تعدت الفصول أوقاتها وضاع ما كنا نؤمله من وراء ثورة العناصر وغضب الأرياح. ومن أجل فقدان ما كنا نؤمله أنا ساهر الآن مثل كل سوري أتنهد بمرارة. وقلت: النفس سراج تملأه السماء زيتاً وتشعله الحياة وظننت عندما وُضع سراج هذه الأمة التعيسة تحت مكيالٍ ان الظلمة قد غلبت ما تعلمناه واختبرناه ومن أجل هذه الغلبة أنا ساهر الآن مثل كل سوري أتأمل وأتنهد بمرارة. من أجل ذلك نسهر كلنا متأملين متنهدين بمرارة علقمية. من أجل ذلك نتوجع وننظر بعيون حجبتها الدموع نحو الجامعة السورية. فنراها طفلة ضعيفة لم تبق منها العلة غير حشرجة الصدر وفضلات أنفاس يقطعها اليأس الشديد ويصلها الأمل الضعيف. من أجل ذلك نرثي وليس لنا معزٍّ. من أجل ذلك قد استحلفتكم بالأمس وها أنا استعطفكم الآن لأن الجرح قد بلغ حبة القلب. فمن الظلم الجهنمي أن نسكب على جوانبه سماً ناقعاً والبلية قد سحقت العظم. ومن القساوة البربرية أن نسخر بالبلية قائلين هي حقوق نناصرها وعدل نرجوه. ما هذه الحقوق التي نناصرها ونضحي على مذبحها مصلحة الجامعة ونهرق على أقدامها دم الأمة؟ ما هذا العدل الذي نرجوه فنفرغ أمامه الجيوب والأدمغة؟ هل سمعتم بحقوق تسلب وعدل يظلم؟ أصدقكم يا قوم ان تلك الحقوق وإن حصلنا علينا لا تردّ المسلوب ولا تعيد الخسارة ولا ترجع الضائع. وأصدقكم أن ذلك العدل وإن طلبناه بكل قوانا لا يكون غير مقابلة الشر بالشر. الحقوق المقدسة هي أن نبني الآن ما تخرَّب لا أن نخرّب ما بقي عامراً. والعدل الحقيقي هو أن نبقي على الأعضاء الصحيحة من جسم الجامعة لا أن نلتصق بالميت منها. الحقوق المقدسة هي التي نطلبها الآن من الكل من أجل الكل والعدل الحقيقي هو الذي لا يسلب دموع جامعة ويحرق كبد أمة من أجل ابتسامة فرد واحد. الحقوق المقدسة لا تكسر المعصم طمعاً بالسوار والعدل الحقيقي لا يقطع الأعناق شغفاً بالعقود. والحقوق وإن كانت مقدسة تتصاغر أمام مجد التساهل. والعدل وإن كان عظيماً يسجد أمام عرش التسامح. كل شيء في هذه الحياة لا يساوي دقيقة محبة. كل حاسة في القلب البشري بل كل عاطفة في نفس الإنسان ترتمي متشرفة أمام الغفران ومن أجل كلمة غفران نسمعها من بين شفاه المتخاصمين نحن ساهرون صابرون وقد أتلفنا السهر وكاد الصبر يفنينا. تعالوا إذاً نصفح ونتصافح. تعالوا نبتسم فقد أعمانا البكاء. تعالوا نهزّ الأيادي. فعند تلاصق الأكف ننسى خشونة الأيام الماضية. تعالوا فذلك الشيخ الجليل رجل الله وكاهنه المفضال الذي رضي بإهراق دمه فدية عن الجامعة السورية لا يمتنع عن مد ذراعيه المملوءتين محبة ليضمنا جميعاً ويباركنا. تعالوا تعالوا فقد ذهب الشتاء الطويل وجاء الربيع الجميل. جبران خليل جبران المهاجر - العدد 189 - 15/5/1906