مشكلة العرب عبر العصور تكمن في إخفاء العلل وتجهيلها ورفض الاعتراف بالواقع المرير ودفن الرؤوس في الرمال هرباً من مواجهة الحقائق والمصارحة في تحديد الأسباب وتوصيف العلاج. فالتأجيل هو الاساس والتسويف هو سيد الموقف والتجميد هو"أبو القرارات"لعل الزمن يحل المشاكل من دون جهد يبذل أو لعل عامل الوقت يتكفل بدفنها وطيها في عالم النسيان. والسكوت على هذه العلة، التي هي أصل العلل، لم يعد جائزاً ونحن نرى أمتنا تغرق في بحار الأزمات وشعوبنا تضيع في صحراء التخلف والإهمال واللامبالاة. نعم لا بد من صرخة: كفى يطلقها الحكماء، كفى للتجميد، وكفى للتجهيل، وكفى للتكاذب، وكفى للتهرب من مواجهة الأخطار وكفى لرفض الاعتراف بالواقع، وكفى للهروب من الحوار البناء والمصارحة الجادة، وكفى للمسايرات والمناورات والضحك على الذقون. فالعلل كثيرة لا حصر لها ولا تعداد ولا حدود ولا تمييز بين دولة ودولة وشعب وشعب فكلنا للهم إخوان وأبناء عمومة، وكلنا نعاني من ترسبات الماضي وأخطاء الحاضر وخطايا البعض منا، وكلنا نتشارك في هموم المستقبل والمخاوف من الغد الذي نخشى ان يحمل الينا المزيد من الشروخ والأزمات والمشاكل والحروب والتداعيات. ولهذا نعود مرة بعد مرة لطرح"محتويات"سلة العلل التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية ونكرر إطلاق الصرخة للتحذير من مغبة المضي في هذا الغي والتمادي في ارتكاب معاصي التأجيل والتجميد والتسويف وإخفاء الأوساخ والقذارات والأخطاء تحت"سجادة"الأمة المنكوبة. ومع الاعتراف بالحقيقة الناصعة وهي ان اسرائيل هي أصل العلة وسبب التداعي، وبأن المطامع الاجنبية هي التي اسهمت في تفتيت الأمة وتخلفها ونهب ثرواتها ومعها كل"الشماعات"الاخرى التي نعلق عليها مشاكلنا لا بد من الاعتراف ايضاً بأن العلل الاخرى الأساسية هي من صنع أيادينا، وبأن تجاهلها وإهمالها أديا الى تعميق الهوة وتضخيم الأخطار وتسهيل مهمة الآخرين من أعداء وطامعين وانتهازيين وفاسدين ومفسدين. ومهما حاولنا تقديم المبررات والأعذار فإن الصراحة تستدعي وضع اليد على مواطن العلل والدعوة للإسراع بالبدء بأنفسنا أولاً، مع الاعتراف بوجودها اصلاً، لأن الاعتراف هو سيد الأدلة، وهو البداية لأي حل ولكل علاج ومن بعده تبدأ مسيرة اصلاح الأحوال بتأمين عوامل النجاح وهي كثيرة أولها توفر النيات والعزيمة والإرادة ونبذ الخلافات وأسباب الفرقة، والإقدام والاستعداد للتضحية في سبيل هذه الأهداف السامية. وهذا يتطلب إعادة النظر في كل القضايا والأمور من دون استثناء ولا خضوع لرغبات ونزعات أو تجنب لحساسيات وعصبيات ومساومات. وأدرك جيداً انني عندما أقدم هذا الطرح وأدق نواقيس الخطر من أجل المسارعة بإيجاد العلاج فإن البعض سيعتبره مثالياً افلاطونياً يبحث عن"الجمهورية الفاضلة"والبعض الآخر سيحذر من ان الخطوط الحمر اقوى من ان تدعه يمر أو تسمح له بأن يبصر النور، فيما البعض الآخر يؤكد انه أصبح من سابع المستحيلات لأن العلل مستحكمة ومتحكمة بكل مفصل من مفاصل حياتنا وان العقبات عند البحث ومحاولة التنفيذ ستحول دون ملامسة اي علاج. ومع هذا أجد من الواجب علي ان أطرح جملة القضايا التي تشكل اساس العلل التي تعاني منها مجتمعاتنا بشكل مختصر وسريع على ان أعود لطرحها بالتفصيل الواحدة تلو الأخرى، وهي على سبيل المثال لا الحصر: غياب المشاركة الفعلية في معظم القرارات المصيرية وغير المصيرية المتخذة من قبل السلطات العليا مع كل ما يتفرع عنها من ديموقراطية، بغض النظر عن اشكالها وألوانها وخصوصياتها، وعدالة وحريات أساسية وأنظمة عادلة تضمن المساواة أمام القوانين المرعية وحقوق انسان مهدورة. اتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم وغياب لغة الحوار البناء ما أدى الى بروز حالات نقمة ولا مبالاة وهجرة وتقوقع ونقص مناعة في مشاعر الوطنية ومسؤوليات"المواطنة"! انتشار موجات الفساد وهي آفة تضرب في أعماق المجتمع وتفتك بمقومات الوطن وتنشر عدوى أمراض واشتراكات أخرى وتداعيات وانعكاسات تخلق البيئة المثالية للعلل الأخرى التي تشكو من تضخم مخاطرها ومصائبها. تفاقم ظواهر العرقية والعنصرية والطائفية والمذهبية والعشائرية والفردية والشوفينية والتعصب والتشرذم والتباعد بين أبناء الأوطان العربية من المحيط الى الخليج، مع أن بعضها كان يعيش أجواء علاقات أقرب الى الوحدة الحقيقية ومع أن الأرض العربية كانت تتسع في الماضي لكل مواطن ومقيم بغض النظر عن لونه ودينه ومذهبه وأصله وفصله. التطرف: وهي آفة تتشعب أخطارها وتتفاقم مع الأيام على رغم كل ما يقال عن حصرها وقمعها والسيطرة عليها. والارهاب الذي يواصل ضرباته داخل المنطقة وخارجها يمثل نتاجاً واحداً من انعكاساته المدمرة ومظهراً واحداً من مظاهر الأخطار المرتقبة على مجمل أوضاع العرب وحاضرهم ومستقبل أجيالهم. البطالة: كل آفة من الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا لها امتدادات وانعكاسات على الآفات الأخرى وتتقاطع معها لتشكل"سلة العلل"التي تحدثت عنها. وآفة البطالة قد تكون علة العلل ومنها تتفرع أسباب وعوامل التطرف والانحراف والإرهاب والفساد وغياب العدالة ومبدأ تكافؤ الفرص والمشاركة في الحلول والحوار الرامي الى وضع المشاكل تحت المجهر لمعالجتها وايجاد الحلول الناجعة واتخاذ القرارات السليمة. وكم من ناقوس خطر قرعناه من قبل لنحذر من آفة البطالة المستشرية في عالمنا العربي وعواقبها المدمرة على الحاضر والمستقبل، كما أشرت في مقالات عدة سابقة الى ظاهرة"الحيطست"أي تجمع الشباب في الشوارع والأحياء وهم يسندون ظهورهم الى الجيران ويشتكون لساعات الليل والنهار من أوضاعهم وهمومهم ومآسيهم من دون أن يلقوا آذاناً صاغية. الفراغ: وهو يشكل"التوأم"الرئيسي للبطالة في مجتمعات عربية كثيرة، إذ أن ملايين الشباب يعانون من هذا الفراغ القاتل في حياتهم بسبب غياب التوعية وعدم توفير مجالات حيوية لمساعدة الشباب على تفريغ شحنات طاقاتهم المهدورة والاستفادة من الوقت بأعمال مجدية وهوايات مفيدة وخدمات اجتماعية تسهم في تنمية المواهب وتشجيع المبدعين وإغناء روحية المشاركة في خدمة المجتمع بدلاً من التلهي بالأمور التافهة أو الاتجاه الى مسالك الانحراف الخطرة والإدمان المدمر. الجهل: لم نفاجأ عندما طالعتنا الصحف أخيراً بإحصاء موجع في نتائجه وأبعاده ومعانيه جاء فيه أن هناك أكثر من 70 مليون أمي في العالم العربي لأن نسبة الجهل تتزايد بدلاً من أن تتناقص تماشياً مع تطورات العلوم والامكانات المتاحة. فقد أسهمت الحروب والنزاعات التي دمرت العالم العربي في تدمير أجيال بكاملها وإفقار الشعوب وبالتالي في حرمان الملايين من تلقي العلم وتحويلها الى عبء جديد من الأعباء التي تعاني منها أوطاننا. پ مناهج التعليم: رغم كل ما يقال عن تطوير وتغيير في مناهج التعليم في معظم الدول العربية، فإن الواقع يثبت لنا أنها ما زالت متخلفة عن الركب إن من ناحية اللحاق بثورة المعلومات والتكنولوجيا أو في الأساليب والإمكانات والنتائج، أو في عدم إعداد الجهاز التعليمي القادر على مواكبة روح العصر وتأمين الحياة الكريمة للمعلمين وإعادة الاعتبار لدورهم الرائد في تأدية رسالتهم السامية لبناء الأجيال. مسؤولية الإعلام: ظور الإعلام العربي نفسه من حيث الإمكانات واستخدام التكنولوجيا ومواكبة ثورة الاتصالات ورصد الأموال السخية للتنافس في حرب الفضائيات وغيرها، لكنه تخلف عن الركب من حيث المحتوى والأداء ولعب دوره المطلوب في التوعية والتوجيه ونشر العلم ومحاربة التخلف والجهل. ويعود هذا التخلف إلى خلاف وارتباك حول تفسير أهداف رسالة الإعلام: هل هي للترفيه والتسلية أم لخدمة المجتمع والدفاع عن قضاياه والبعد عن الإثارة والمغريات وإثارة الفتن والنعرات ومحاكاة الغرائز؟ مع أن الحل سهل وهو الجمع بين التفسيرين وتقديم التسلية البريئة التي يحتاجها المتلقي مع أداء رسالة الإعلام وتحمل مسؤولياته في نشر الوعي والثقافة والبعد عن الابتذال والخفة ووقف الهدر في الطاقات وتغليب السطحية والتفاهات بعد أن تسلل الى جسد الإعلام كل من هب ودب ليمعن فيه فساداً وتخريباً. هذه العلل التي أشرت إليها تحتاج إلى بحث دقيق ومفصل بعد الاعتراف بوجودها أصلاً، إذ أن أصواتاً كثيرة ترفض ذلك وتصر على أن أمورنا كلها بخير وأن كل ما وصلنا إليه من أخطار وأهوال وتخلف تقع مسؤوليته على الأعداء، فنحن براء من كل ما ارتكبته أيدينا جنباً الى جنب مع الأعداء والطامعين وحسب نظريات هؤلاء. ولا بد من خطوات متلاحقة لوضع أسس العلاج بدءاً من وضع عقد اجتماعي جديد وتأمين المشاركة وتشجيع الحوار وبناء جسور التواصل والمحبة بين أبناء الوطن والأمة ونبذ التطرف والعنف وتغليب المصالح العليا على المصالح الخاصة وقطع دابر الفساد وايادي المفسدين والعودة إلى الاصول: اصول الدين ومبادئه السمحة من الاعتدال والوسطية والتضامن والتكافل والتآخي، وأصول العادات والتقاليد العربية العريقة. وهذا يتطلب مشاركة الجميع، كل في موقع مسؤوليته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإعلامية والدينية. فكل مواطن مسؤول ومطالب بالتحرك لإعادة ترميم الجسور ورأب الصدع واصلاح الأوضاع المتردية بالجدية والايجابية والنقد البناء والضغط المشروع والهادئ. ومع الاعتراف بأن البحث عن الكمال مستحيل، وأن الوصول الى الرضا الكامل غاية لا تدرك، فإن الممكن والمتاح هو القبول بالحلول الوسط في شتى المجالات بعد المصالحة مع النفس أولاً ثم مع بعضنا بعضاً، وبعدها مع الآخر تحت مظلة القوانين والعدالة والحريات المسؤولة لأن الاصلاح لا يأتي من الخارج بل من قناعات داخلية بحتة. فالخطر داهم إن لم نتخل عن أسلوب تأجيل الحلول وتجهيل العلل. نعم انها نظرة مثالية ودعوة قد تكون خيالية غير ممكنة التحقيق في ظل ما نعرف وما نعاني وما نواجه... ولكنها دعوة صادقة لا مفر من اطلاقها وتكرارها... ولو لإراحة الضمير! * كاتب عربي