لا يختلف اثنان على ان الأوضاع العربية الراهنة قد وصلت الى الدرك الأسفل، أو الى حافة الهاوية على مختلف الأصعدة وعلى امتداد الوطن العربي كله. فقد كنا نعاني من تداعيات نكبة فلسطين عام 1948 وما قبلها من ارتدادات بلغت ذروتها عند وقوع هزيمة الخامس من حزيران يونيو 1967 والتي أطلق عليها زوراً اسم"النكسة"فصرنا نعاني اليوم من نكبات ومشاريع نكبات في العراقوفلسطينولبنان والحبل على الجرار. وكان الأمل كبيراً بإيجاد مخرج للأزمات أو ظهور منقذ يقود العرب الى شاطئ الأمان ويعيد لهم كرامتهم وأمنهم واستقرارهم، فإذا بهذا الأمل يخبو ويتوارى ولا يترك سوى بصيص أمل أو بقايا شعاع. وكنا نحلم بالنصر وتحرير الأرض من النهر الى البحر فصرنا نقبل بحلول جزئية ونحلم بسلام ناقص ونرضى بأجزاء مبعثرة من فلسطينالمحتلة، فيما أوطان أخرى تقسم وتفتت وتدمر و"تتفلسطن"وسط صراعات مذهبية وطائفية وعرقية وحزبية واحتلال، ظاهرة وخفية من قبل قوى دولية واقليمية طامعة بالثروات العربية وحاقدة بالإجمال على كل ما هو عربي. وكنا ننادي بالوحدة العربية ولا نقبل بأي بديل أو حتى بالتضامن، فإما الوحدة الفورية الاندماجية الكاملة وإما الانفصال والخصام والقطيعة وإغلاق الحدود، فصرنا نفرح إذا التقى زعيمان أو عقدت قمة دورية لا طائل منها، ونهلل لمجرد الاستماع الى نص برقية تهنئة بالعيد الوطني مرسلة من زعيم الى أخيه العزيز. وكنا نخاف على الوحدة من المحيط الى الخليج فصرنا نعيش في هاجس الرعب من تفتيت الكيانات وتقسيم الأوطان. وكنا ننعم بوحدة المصير والدم والدين داخل أوطاننا فإذا بنا ننتقل الى نقمة الخلاف والشقاق وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية واشعال نيران النزعات والغرائز بين اخوة الأمس فيتحول الدم الى ماء ويصاب الصرح بالتشقق والشروخ، ونحن نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً من ان يتناثر دماراً ورماداً فلا يبقى منه سوى الأطلال التي نبكي عليها ملكاً لم نحافظ عليه كالرجال. وكنا نعيش حلم البناء والتقدم والحرية والديموقراطية والأمان الشخصي والعام وتشييد صروح الاقتصاد القوي والمتين القادر على تأمين الاستقرار والرخاء وفرص العمل، فصرنا نحلم بالهجرة وتأشيرات السفر هرباً من الفساد والإفلاس والبطالة. هذه الوقفة ليست لجلد الذات ولا لندب حال الأمة، بل هي تهدف الى ايقاظ الشعور الوطني والقومي والدعوة الى التنبه للمخاطر وإجراء جردة حساب للتجارب المدمرة التي مرت بها أمتنا واستخلاص العبر والدروس منها ووضع الإصبع على مواضع الخلل وفرز الايجابيات عن السلبيات وكشف النقاب عن الأخطاء والخطايا التي ارتكبت خلال العقود الماضية والتذكير بها لعل الذكرى تنفع، أو لعل الحكمة تنتصر في النهاية لرسم خريطة طريق جديدة تستفيد من دروس ما جرى وتعمل على استنهاض الأمة وبدء مرحلة جديدة من البناء ورص الصفوف ورأب الصدوع في الجسد العربي المثخن بالجراح. هذا المطلب الضروري والملح لم يعد هناك أي مجال لتجاهله بعد كل ما جرى، ومن هول ما نشهده من أحداث حيث الصراع على أشده بين الاخوة في فلسطين، فيما العدو يتمادى في عدوانه ويعربد في اجراءاته، والمذابح المذهبية والطائفية والعبثية تغرق العراق بالدم والدمار والأحقاد والأخطار، فيما يقف لبنان على حافة الانهيار وسط صراع عبثي مفتعل يشعل نيران فتن هو بغنى عنها. هذا المشهد العربي الراهن يستدعي دق ناقوس الخطر والبحث عن مخارج وتكوين فرق إنقاذ للأوضاع وفرق إطفاء للحرائق المنتشرة ووقف نزيف الدم والبشر والأدمغة وتحديد مكامن الخطر وسبل الخلاص. هذه الهواجس تكاد لا تغيب عن أي لقاء بين عربي وعربي وتحضر بقوة في الاجتماعات والمنتديات وتتداول حالياً في مختلف برامج الفضائيات العربية والاجنبية من دون تلمس معالم طريق هذا الخلاص ولا طروحات جديدة للمخارج والحلول الناجعة، بل ان معظمها تنتج عنه انعكاسات سلبية بسبب اسهام بعض المشاركين في صب الزيت على النار وإذكاء نار الفتن النائمة والمستيقظة. هذه الهواجس أتداولها مع قيادات سياسية عربية منفية عن أوطانها بسبب مواقفها أو أنها اختارت المنفى للهروب من الواقع الأليم، أو أنها اضطرت للهرب من خطر محدق، وهي تجتر أدبيات الماضي حيناً وتستخدم خطابه السياسي ومفرداته البائدة حيناً آخر، أو أنها تسهم في الانتقاد واللوم واختراع شماعات لتلقي عليها كل الأخطاء محاولة تبرئة نفسها منها والادعاء بأنها كانت مكتوفة الأيدي أو مغلوبة على أمرها أو أنها حاولت وأسدت النصح ولكن من دون جدوى فقد كان الحاكم أصم الأذنين رافضاً الاستماع إلا الى قصائد المديح وشعارات الإشادة والتبجيل والولاء والطاعة العمياء. وعلى رغم هذا، فإن القاسم المشترك لما سمعته من مختلف القادة المتقاعدين واللاجئين والمنفيين والهاربين هو الاعتراف بالاخطاء الجسيمة والخطايا التي لا تغتفر والمساهمة بشكل أو بآخر في سلسلة الهزائم التي لحقت بالعرب ومسلسل الانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمساعدة، مباشرة أو غير مباشرة عن قصد وعن غير قصد بتقديم الخدمات الجاهزة ولا أدري ما إذا كانت مجانية للأعداء على اختلاف مشاربهم وأشكالهم كي يستبيحوا الأرض والعرض والثروات والشعوب. قبل عامين التقيت صدفة برئيس المجلس الوطني العراقي السابق سعدون حمادي فوجدته ضعيفاً بائساً حزيناً شاحباً تسنده زوجته الفاضلة فاستغربت الأمر بعد أن عرفناه من قبل صداحاً في الدفاع عن رئيسه صدام حسين ونظامه البائد وعنيفاً في ردوده ومتشدداً في خطاباته و"عنتراً"في مواقفه. كان اللقاء في"لوبي"أحد فنادق الدوحة حيث كان قد لجأ اليها ليبدأ مرحلة علاج من السرطان لم ينفع معه فأرداه بعد أشهر قليلة. وبعد حوار عابر التقيته على الإفطار في اليوم التالي وحاولت ان أجره الى الحديث عن الماضي وأسراره فأبى وتهرب وقال انه يعكف على كتابة مذكراته التي سيضع فيها كل ما يملكه من معلومات من دون زيادة ولا نقصان. فقلت له: بانتظار هذه المذكرات أريد منك رداً واضحاً على سؤال واحد يشغل بالي: بعد كل ما جرى للعراق وللنظام ولكم من احتلال ودمار وأخطار وشقاق وفتن وقتل وتشريد هل استخلصتم الدروس والعبر؟ وهل توصلت انت شخصياً الى حقيقة الأخطاء والخطايا؟! صمت حمادي قليلاً وأطرق رأسه مفكراً ثم رفعه ليفاجئني برده المقتضب المعبر وهو: نعم الأخطاء قاتلة. واعترف لك الآن بأنه ليس كل ما عملناه جيداً، وليس كل ما كان قبلنا وانقلبنا عليه منذ العهد الملكي سيئاً. لقد ارتكبنا أخطاء وحققنا انجازات، الايجابي موجود والسلبي ايضاً ولم يكن يخطر ببالنا ان النتائج ستكون وخيمة علينا وعلى العراق وعلى العرب وأن نصل الى ما وصلنا اليه. وحتى ان تستغل ايران الفرصة لتنتقم بهذا الشكل وتسهل احتلال العراق. قلت ولكن الاخطاء التي اشرت اليها ما هي الا جرائم أدت الى خراب البلد العامر والغني وهددت بتقسيمه وتفتيته وتشريد شعبه المعروف بالإباء وعزة النفس. فأشاح بوجهه بعيداً ثم اعتذر ليختفي عن الانظار وكأنه أراد ان يخفي دمعة ندم وحزن وألم. ومثل سعدون حمادي العشرات الذين التقيتهم في المنافي أو حصلت على مذكراتهم ووجدت انهم يسبحون في بحار الندم ودموع البكاء على أطلال تركوها خلفهم، بل أن أحدهم كان صريحاً وصارخاً في اعترافاته وندمه عندما قال: لقد ارتكبنا كل الموبقات بحق شعوبنا وأوطاننا، وأنا أعمم وأقصد نحن وغيرنا، فقد كنا نفعل الشيء ونقيضه ونعلن شعارات ونعمل بغيرها ونتبنى مبادئ ونطبق ما هو مضاد ومخالف لها: نادينا بالوحدة وكرسنا الانفصال، وكانت الهدف والغاية والأمل فأصبحت من المستحيلات بسبب خيبات الأمل. ونادينا بالقومية العربية وعملنا على ترسيخ الاقليمية والعنصرية والعصبيات، وبدلاً من أن نوحد العرب فرقناهم وتسببنا باستفزاز الأقليات من الاخوة الأكراد والأمازيغ وغيرهم، وجاء بعدنا من طرح العودة للدين فلجأ للتطرف والقتل والارهاب وفتح ساحات ومعارك أدت الى مزيد من الدمار والفرقة والتشرذم واستعداء المسيحيين العرب وغيرهم وتقسيم المجتمعات الى مؤمنين وكفار. فقد كنا نتهم من يعادينا بالامبريالية والرجعية والاقطاع ونسجن من نسجن ونصفي من نصفي وننفي من ننفي فجاء من يزايد علينا ويعدم من يعدم ويفجر من يفجر ويكفر من يكفر. حتى الحرية استغلها البعض لأهدافه الخاصة وفصلها على قياسه، لتتحول الى اعتداء على حريات الآخرين ومجالاً للقدح والذم وتوزيع الاتهامات. كما حادت الديموقراطية عن طريقها لتصبح ديكتاتورية مغلفة بقفازات وهمية. أما في الاقتصاد فحدث ولا حرج: هدر وفساد وتهريب أموال ونهب ثروات وتخريب مؤسسات، فكأنه لم يكف العرب ما جرى لهم من تخريب مؤسساتهم العملية والتعليمية والقضائية والوطنية. جرى تأميم المؤسسات الخاصة وأدى الى هروب الرساميل الوطنية واستنكاف الاستثمارات الخارجية وأقيم ما سمي بمؤسسات القطاع العام ليعشعش في اداراتها الفساد في أبشع صوره وحالاته، وطبقت قوانين ما يسمى بالاصلاح الزراعي فإذا بها تتحول الى الخراب الزراعي فتراجع الانتاج ولم توزع الأراضي على الفلاحين المساكين وعم الفقر وانتشرت البطالة وازدادت موجات الهجرة بحثاً عن لقمة عيش ولحظة أمان. ولو أردنا ان نمضي قدماً في الوصف والشرح لاحتجنا الى مجلدات، ولكن هذه الخلاصة تدفعنا الى التساؤل: بعد كل هذه التجارب المريرة والمدمرة ألم تحن ساعة الحساب أو على الأقل وقفة تأمل للمحاسبة واستخلاص الدروس والعبر ان لم أقل محاكمة مرحلة كاملة بايجابياتها وسلبياتها؟ والجواب المنطقي هو: نعم انها ساعة الحقيقة والمحسابة قبل أن يفوت الأوان! فكفى إخفاء الرؤوس تحت التراب تشبهاً بالنعامة، وكفى للكذب على أنفسنا وعلى شعوبنا وعلى الآخرين، وكفى لتحويل الشعوب الى حقول تجارب واستيراد المبادئ المعلبة من الخارج لتطبيقها ثم العودة عنها بعد أن يدخل"الفأس في الراأس"كما يقول المثل. وكفى أنانيات ومزايدات باسم العروبة والوطنية وأخيراً باسم الدين من أجل الوصول الى السلطة وعزل الآخرين وفق اسلوب"أنا ومن بعدي الطوفان"أو المفاضلة بيني أنا وحدي وبين الخراب والويل، أو مقولة: من ليس معي فهو ضدي وضد الوطن وضد المواطن ولهذا يستحق السجن والتعذيب والإعدام. وكفى ذرائع نقدمها للأعداء كي ينفذوا مخططاتهم ويحققوا أهدافهم. نعم، لا بد من وقفة حساب وسؤال: لماذا وصلنا الى هنا... ومعه ألف سؤال وسؤال عن الخسائر والنتائج والأخطار والهزائم والمزاعم السائدة بعد كل هزيمة بأننا خسرنا الحرب وانتصرنا بالمحافظة على أرواحنا وأنظمتنا وأحزابنا. حساب من أجل المصلحة العامة، وسؤال من أجل أخذ العبر والدروس والاستفادة منها، ووقفة من أجل إعادة النظر في الأوضاع ومراجعة الوقائع والتخطيط للمستقبل ونزع فتائل التفجير وزرع بسمة أمل على شفاه أبناء أمتنا بعد طول عذاب ومعاناة وآلام. * كاتب عربي