هناك إغراء كبير يدفع قادة 14 آذار الى اعتبار تجمّعهم حركة استقلالية موازية في دورها وفي تاريخيتها للكتلة الدستورية التي ساهمت في انجاب لبنان كما نعرفه من رحم الانتداب الفرنسي، والتي قادها الزعيمان بشارة الخوري ورياض الصلح الى جانب زعماء وطنيين آخرين. بهذا المعنى يريد قادة"ثورة الأرز"أن يرعوا مشروع استعادة لبنان من عهد الوصاية السورية وما رافقها، كما استعاد الاجداد لبنان الكبير من فرنسا الى الاستقلال. ويبدو ان المشروع السياسي الذي عكفت هذه القوى على صوغه يريد أن يستجيب لهذا الاغراء. فهو يعيد التأكيد على مقولة الاستقلال باعتبارها العمود الفقري لإعادة انتاج الدولة السيدة والقادرة. ويدعم ربط لبنان بمحور عربي يلتقي مع شروط السيادة اللبنانية ويحميها في وجه القوى التي تطمع بها، والتي حددتها وثيقة 14 آذار بكل من سورية واسرائيل وايران. كما يطرح علامات استفهام بشأن ارتباط فريق من اللبنانيين، هو الفريق الذي يمثله"حزب الله"، والذي يسعى الى"تحويل لبنان الى مقاطعة سورية ورأس جسر لإيران على البحر المتوسط"، كما ورد في الوثيقة. ولا تخفي قوى 14 آذار طموحها في ان تكون اهدافها هذه انعكاساً حقيقياً لطموحات معظم اللبنانيين. أليس من مقتضيات المنطق أن يكون طموح الشعوب وحلمها أن تعيش في ظل دول قادرة على حماية استقلالها وتوفير ظروف عيش كريمة لمواطنيها؟ لهذا تطرح هذه القوى مشروعها باعتباره"وثيقة وطنية"تستحق اجماعاً لبنانياً حولها، أي انها لا تصنف نفسها كحزب فئوي، بل كحركة جامعة قادرة على تحصين نفسها بأوسع التفاف ممكن من جانب اللبنانيين. لكن مأزق 14 آذار هنا، وهو مأزق فريد في تاريخيته، أن المشروع الاستقلالي في اللحظة الراهنة يتعرض لهجمة كبرى تطاول مفهوم الاستقلال ذاته. ففي الوقت الذي كان هذا المفهوم واضحاً لدى اركان الكتلة الدستورية وقام على ما تحول الى شعار في ما بعد يقضي بأن"لا يكون لبنان للاستعمار ممراً أو مستقراًً"، يتعرض موقف 14 آذار الآن للاتهام من جانب المعارضة بسبب ما تصفه بتسهيل"مرور"المشروع الغربي عبر الشواطئ اللبنانية. وهو اتهام لا يخفف منه كونه يأتي رداً على اتهام قوى الاكثرية للمعارضة بتحويل لبنان الى"جسر ايراني". وما يعنيه هذا المأزق ان قوى 14 آذار اذ تمد يدها الى اللبنانيين من الذين لم يكونوا ممثلين في قاعة"البيل"، سوف تسمع منهم مفهوماً آخر مختلفاً بالكامل عن مفهومها هي للاستقلال الذي تنشده وتدعو الى الالتفاف حوله. وبينما ترى قوى الاكثرية أن لبنان منقسم بين"ثقافة السلام وثقافة العنف"، يقر المعارضون بوجود هذا الانقسام، لكنهم يصنفونه انقساماً بين"ثقافة الاستسلام"و"ثقافة المقاومة". ويشكل هذا الانقسام الصدى المباشر لانقسام من النوع نفسه بين الأنظمة و"الممانعين"يمتد على مستوى العالم العربي كله. لا بد أن قوى 14 آذار تدرك حدود طموحها، وهي عرضت بواقعية في وثيقتها مجالات الاخفاق والنجاح التي عرفتها خلال السنوات الثلاث الماضية. لكن الواقعية تقضي الاعتراف ايضاً بأن النجاحات، مثل خروج القوات السورية واقرار المحكمة الدولية والقرار 1701 واستمرار الحكومة في مهماتها، كلها تمت بفضل دعم دولي، لم يكن للعامل الداخلي دور كبير فيه، بل ان هذا الدعم ساهم في كثير من الاحيان في زيادة حدة الخلاف الداخلي. اما الفشل في التوصل الى حل لهذا الخلاف فهو الذي يبقى العقبة الكبيرة التي تحول دون الطموح المتمثل في تحقيق حلمي السيادة والاستقلال. لهذا لا تستطيع قوى 14 آذار الا ان تنظر الى خارج حدودها السياسية والحزبية لترى أن فريقاً لا بأس به من اللبنانيين، يضم اكثرية معتبرة من الشيعة وقسماً من المسيحيين وجانباً من السنة واطرافاً درزية، لا يلتقي مع طروحات"استقلالها"ويعتبرها طروحات فئوية، بل قد يرى انها تعبير عن طموحات خارجية. وعليها بالتالي مسؤولية مخاطبة هذا الفريق بغير اللغة الاتهامية التي تقطع جسور التواصل. فمثلما تتمثل ازمة لبنان في استعادة مؤسساته وموقعه وحقه في الحياة، تتمثل ازمة 14 آذار في تحويل فهمها للاستقلال من شعار فئوي الى شعار وطني.