صيف 1978 تعرفت في برن عاصمة الاتحاد السويسري، الى رجل أعمال سويسري من أصل ألماني، مُلتزم الحياة العامة. تكلمنا عن لبنان وحربه، فقال انه لا يعرف لبنان لكنه يعرف ما يحصل هناك، وأنه متيقن من تدخل دول مجاورة جعلته أرضاً تتفجر فيها الصراعات، بمساعدة بعض اللبنانيين المُرحبين بهذا التدخل، ولولا هذه المساعدة لكان من المتعذر حدوث هذه الحرب والنيل من استقلال لبنان واستقراره. وروى انه في عام 1939 قبل الحرب العالمية الثانية، يوم كانت ألمانيا النازية تُحضّر للاستيلاء على أوروبا، زار برن وفد ألماني رفيع ، طالباً من مجموعة من السويسريين المُتحدرين من أصل ألماني، وكنت واحداً منهم، المساعدة على تأسيس فرع للحزب النازي في سويسرا، فكان ردنا سريعاً، وحازماً: إننا شعب ناضل طويلاً ليحصل على استقلاله، واليوم لن نُفرّط بمكتسباتنا. صحيح اننا من أصل ألماني، لكننا الآن سويسريون في دولة مستقلة، نعيش جنباً الى جنب الفرنسيين والإيطاليين في وطننا النهائي: الاتحاد السويسري. التجربة السويسرية مفيدة، كذلك تجربة لبنان التاريخية، شرط مقاربتها بطريقة متجددة، فمن غير الممكن اليوم أن يُقيم حزب أو سياسيون سويسريون ارتباطات خارجية دعماً لموقفهم السياسي. ففي سويسرا، كل فئة ضعيفة بمفردها، لكن الفئات المتنوعة تستطيع معاً حماية وطنها واستقلاله. في لبنان الوضع مختلف تماماً، فالقوى الإقليمية والدولية موجودة بالأصالة أو بالوكالة، وتعتبره ساحة مُستباحة للصراعات، وجبهة أمامية لحرب منتظرة، وأرضاً لتفجير حروب الآخرين وثوراتهم. هذه القوى تحول دون عبور لبنان الى السلام. فكل فريق يؤكد عزمه على الانتصار على الآخر. لكن للأسف، يقود بعض السياسيين اللبنانيين، وطنهم نحو الانهيار، ويُجهضون إنجازاته واستقلاله الثاني. ان أي قوة خارجية، مهما بلغت قوتها وسطوتها، لا تستطيع أن تنال من لبنان واستقلاله وحريته من دون التعاون الوثيق مع بعض اللبنانيين، من قادة وسياسيين وأحزاب وإعلاميين وغيرهم. وفي هذا المجال يصح قول الدكتور فيليب سالم:"إن المدرسة السياسية اللبنانية، التي تؤمن بأن الولاء لغير لبنان، هو الوطنية... تحرير لبنان من هذه المدرسة السياسية، أهم من تحرير أرضه من الجيوش الغريبة، لأنها العدو اللدود للبنان في الداخل، هذا العدو الذي هو أصل الداء، بل السبب المباشر للحرب، والسبب الرئيس للانحدار الخُلقي والسياسي والحضاري الذي وصل اليه لبنان. فإذا حررنا الأرض ولم نحرر الإنسان، ستعود الجيوش الغريبة ثانية وتغتصب الأرض مرة أخرى". إن لبنان اليوم هو كونفيديرالية مصالح خاصة وارتباطات وضغوط سياسية مُذلّة. لذلك فإن"الأولوية يجب أن تعطى لتأميم السياسة اللبنانية، بمعنى جعلها وطنية"، على حد تعبير غسان سلامة. كما أن بعض السياسيين الجدد، أوجدوا نوعاً من الانحدار في الخطاب السياسي، فأصبح الانفعال سيد السلوك السياسي الجديد، في غياب أدبيات العيش المشترك. فكيف لقادة وسياسيين لا يتحركون إلا في المواكب السريعة أن يلحظوا أنهم في وطن مُثخن بالجراح، وأن المواطنين أصبحوا في جانب، وهم في جانب آخر، وأن هناك أكثرية صامتة جديدة مُلتزمة الحياة العامة قوامها مواطنون من جميع الفئات، وتبدو أكثر ثقافة ووطنية مما يتصوره السياسيون، يجمعها التصدي لما يعانيه الوطن من حروب وفتن واغتيالات وتفجيرات، وانشقاق داخلي، وترفض الانقلاب المقنّع على النظام الديموقراطي، واستجداء أمن لبنان من هنا وهناك، كما ترفض الاختزال السياسي للطوائف وإقامة سلطة على أرض الوطن تقرر الحرب والسلم، في يدها حياة اللبنانيين وموتهم. إن الأكثرية الصامتة الجديدة، تعتبر أن لبنان بات يفتقر الى قادة استثنائيين شجعان مميزين بوطنيتهم العالية، وبنظرتهم المستقبلية، يتحلون بالنضج والمعرفة والثقافة والقوة الهادئة، مؤمنين بكيان لبنان ويعملون لمتابعة ترسيخ الاستقلال الثاني واستكمال بناء الدولة القوية القادرة والعادلة، ويفصلون بين بعض الجماعات اللبنانية والخارج، ويسعون الى التحول من الانتماء الطائفي الى الانتساب المدني والى تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية. كما ترى أيضاً أن لبنان يفتقر الى معارضة، يجري في عروقها عصب الوطنية ونبضها، تؤمن بلبنان وطناً نهائياً حراً سيداً مستقلاً. تدعم النظام الديموقراطي الذي ارتضاه اللبنانيون منذ الاستقلال الأول، وتعارض ضمن مفاهيم هذا النظام ومؤسساته، وتجهد نفسها في خدمة مصالح لبنان دون سواه وتُبعد شبح العسكريتارية نقيض الديموقراطية عن الوطن، والتمني على القادة والسياسيين، إيقاظ وطنيتهم الحقيقية، ومراجعة مواقفهم وانعكاساتها السلبية على الوطن، وإلغاء ارتباطاتهم، والتحرر من التزاماتهم، وقطع حبل السرة بينهم وبين الخارج، وإغلاق الأبواب أمام أية تدخلات أجنبية من أي صنف وتحت أي وهم. إن مراجعة هذه المواقف ليست هزيمة، بل هي انتصار لرجال قادرين. ان هذا العمل الوطني الكبير سيبقى في ذاكرة اللبنانيين، ويُشدد على وحدة النظر الى الأخطار المُحدقة بلبنان، ويُبرز الدعوة الى جميع الأطراف، لبدء حوار لبناني ? لبناني، بعيداً من الضغوط الخارجية، لإيجاد مخرج للأزمة الراهنة فقط، بل لإيجاد حل نهائي يُنقذ لبنان من مآسيه المُستمرة منذ عقود... من طريق تحييده، وهو حل لم يكن في تفكير القادة، ولا ضمن أولويات الدولة. هذا المؤتمر الوطني، سيُكتب له النجاح، طالما أن القوى الخارجية ستكون عاجزة عن التدخل المعتاد، وطالما أن شعار المؤتمر سيكون لبنان أولاً. ولكن على طاولة المؤتمر، لن يكون هناك تعادل بين المؤتمرين، فصوت سلاح"حزب الله"سيكون الأعلى، وهذه إشكالية ستلقي بظلالها على المؤتمرين. فلمصلحة لبنان ولمصلحة"حزب الله"، المُطالب بدولة قوية وقادرة، عليه أن يُساهم في استكمال بناء هذه الدولة وستجد قيادته، بوطنيتها العالية وحِكمتها، حلاً لوجود سلاح الحزب الذي لن يعود يتناسب مع وجود هذه الدولة القوية. إن قدر"حزب الله"أن تقوده بطولاته الى وضع الخيار الصعب: التخلي عن سلاحه وإرجاعه الى مصدره في مقابل تعهد إسرائيل بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين الى وطنهم، وإرجاع مزارع شبعا الى لبنان، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية. وبذلك تنتفي مشاريع التوطين في لبنان. وبهذا العمل التاريخي يُقدم"حزب الله"خدمة عُظمى لوطنه لبنان لا تقل أهمية عن تحرير الجنوب اللبناني. لذلك لا بد من إلغاء الأسباب التي من أجلها استُحضر هذا السلاح، لذا يتحتم على الدولة اللبنانية السعي لاستصدار قرار دولي حازم، يتعهد بمنع أي عدوان إسرائيلي على لبنان وضمان سلامة كل أراضيه بما فيها مزارع شبعا، وبالتالي ترسيخ الهدنة القائمة بينه وبين إسرائيل. إن لبنان يواجه معركة حكم بقلق شديد، ولا شك في أن هناك أزمة سلطة مفتعلة، متدثرة بلباس دستوري ومطالب تعجيزية تنم عن إرادة للاستيلاء على السلطة بوسائل انقلابية، يُخشى منها ضرب قيَم الجمهورية الديموقراطية وإطارها الحقوقي من خلال تأويلات المواد الدستورية، يختلط فيها التلاعب بالقانونية الشكلية مع الإرادة الصادقة بتوطيد المعايير الدستورية، فمن التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية، الى حكومة وفاق وطني... يلي ذلك ربما التوافق على الانتخابات النيابية، مواقف تبدو غريبة عن النظام الديموقراطي الذي ارتضاه اللبنانيون، وتشكل مقدمة لإلغاء محتمل للنظام الديموقراطي أو تعطيله، كما تشكل سابقة خطرة تفتح الباب أمام كل معارضة في المستقبل، للمطالبة بالمشاركة في الحكم. فكل تلاعب بالنظام الديموقراطي، وكل ازدواجية في الحكم، إنما يستهدفان الوطن، ويجعلان الحكم ضعيفاً. فالدعوة الى التوافق لانتخاب رئيس للجمهورية هي بالفعل دعوة لتمرير الأزمة الراهنة، وهي أيضاً تجاهل لقيم النظام الديموقراطي وفلسفته حيث الأكثرية تحكم والأقلية تعارض... وهذه أبهى صورة للديموقراطية. فكيف التوفيق بين خطاب يريد الدولة القوية والعادلة، في حين يلجأ الى وسائل تتناقض مع مبدأ القاعدة الدستورية؟ فمن يقول بالوطنية عليه الالتفاف حول الدولة واحترام مؤسساتها، والرجوع الى منطق المسؤولية الدستورية وتطبيق المواد كاملة وبحذافيرها. كلمة أخيرة: لبنان ليس بلداً سائباً، فأهله، رجالاً ونساء، يرفضون ويشجبون كل دعوة تهدد بفرضية الحرب الأهلية وتعِد بخراب الوطن، إذا لم يتم التوافق. * فنان لبناني.