تركيا دولة مجاورة مؤثرة في الوضع في كردستان العراق وعموم العراق، هذه حتمية جغرافية ثابتة، والمتحول هو الشأن السياسي وآليات التعامل معه. ولأن الأمر كذلك لا بد من المكاشفة والمصارحة والتحاور بلا مواربة لنرفع الغطاء عن المستور ونضع الاصبع على موضع الجرح، فمهما أمتدّ الصراع وهو سيتواصل حتماً، لن تكون النهاية إلا بالتحاور والتواصل الحضاري وتغيير آليات التعامل مع المشاكل في اتجاه حلها وليس أقحامها في المزيد من المشاكل والتأزيم. إنها المصلحة المشتركة للشعوب والدول في التنمية وحسن الجوار وضخ دماء جديدة في علاقات الصداقة كي لا تشيخ أو تتآكل، لذا نقول من دون لف او دوران ان ما نريده من تركيا راهناً ومستقبلاً هو: 1 - استثمار الفوز المتميز لحزب"العدالة والتنمية"سواء في تركيا أو كردستان تركيا، لتدشين مرحلة انعطافية جديدة للتعامل مع المناطق الكردية التي منحته الثقة في الانتخابات، فوجود نحو 70 نائباً لحزب"العدالة والتنمية"من أصول كردية في البرلمان التركي يعني ان الأكراد يراهنون، ويعوّلون بصدق على تغيير جذري في نظرة الحكومة التركية الى الشؤون الكردية وقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المناطق الكردية، وهذا الرهان لا ينبغي له ان يخسر او يتراجع، لأن في ذلك خسارة للحزب الحاكم نفسه في الانتخابات المقبلة. ان وجود هذه الأصوات الكردية في البرلمان، إضافة الى نحو 24 برلمانياً من حزب"المجتمع الديموقراطي"المؤيد للمطالب الكردية يجب ان يوظف جسراً نحو ضفاف خضر لتواصل كردي ? تركي يودّع كلياً القياسات النمطية الاتاتوركية في التعامل مع التعددية القومية والاثنية في تركيا، فما وضع في دستور عام 1923 لا يمكن ان يترجم الآن الى واقع في ظل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية الهائلة، لا سيما بعد انهيار المنظومة السوفياتية وبروز النظام الدولي الجديد ونشوء دول جديدة وبروز ديموقراطيات حديثة على الساحة الدولية. أن عين الماضي التي لا ترى الحاضر ولا تتخيل المستقبل لن تقدم أي إغناء أو إثراء للسياسة التركية الجديرة بأن تتغير في ظل عالم تحولاته زئبقية لا تكاد تستكين على حال. 2 - إن قضية حزب"العمال الكردستاني"هي حقيقة فرضت وجودها واشكالياتها على عموم المنطقة، فأنصار هذا الحزب موجودون في إيران وسورية، وبعضهم في لبنان إضافة الى قواعد عمله في تركيا نفسها، و لولا ذلك لما فاز نحو 25 نائباً لحزب"المجتمع الديموقراطي"الرديف السياسي لحزب العمال في الانتخابات التركية، ثم ان لحزب العمال جهازاً إعلامياً متمدداً ومتوسعاً يعمل على مدار الساعة في معظم أنحاء العالم متزوداً بالخبرة الواسعة للجالية الكردية في أوروبا وشبكة منظماتها المترامية الأطراف. نقول كل هذا لتدرك تركيا إن مقاتلي حزب العمال الموجودين في جبال قنديل ليسوا سوى غيض من فيض جهاز هذا الحزب وتشكيلاته، فلماذا تركز تركيا كل جهدها السياسي والعسكري والإعلامي على كردستان العراق؟ ولماذا تقحم نفسها سنوياً في اجتياحات مملّة لم تحصد أي نصر، وكانت الحملة الأخيرة مثل سابقاتها مجردة من أي انتصار سياسي أو عسكري أو معنوي. إن هذه الحقيقة تفرض على تركيا أن تفكر اليوم قبل الغد بالنظر الى الشأن الكردي باعتباره قضية شعب وليس قضية حزب بذاته. 3 - نريد ان نكشف مجدداً لتركيا ان سكان كردستان العراق يشكِّكون في نياتها، وفي كل مرة يثبت هذا الشك بالدليل القاطع، فالجسور المهدّمة في المنطقة والرعب والخوف المنتشران بين الأهالي ومحاولات الجيش التركي لَيْ ذراع قوات إقليم كردستان وتهديدات قادة العسكر التركي الصريحة أو الضمنية للقيادة السياسية الكردية في العراق، لا تعني سوى ان لتركيا نية معلنة ضد حزب العمال، ونيات مبيّتة لا تقولها بل تترجمها الى واقع وتمارسها بمنهجية أثناء الاجتياحات، وزارت لجنة من البرلمان العراقي المناطق المتضررة وتفقّدت آثار الاعتداء اللامبرر مع مطالبة إقليم كردستان بتعويض الأضرار المادية. 4 - نعرف، ليس سراً، ان تركيا تنظر بعين الشك والريبة والقلق الى الحال الكردية في العراق، لكن هذه الحال امر واقع منذ عام 1991 حين صدر القرار 688 الدولي الإنساني وتجذرت أكثر بعد عام 2003 لتتحول من امر واقع الى واقع دستوري عراقي. لذلك لتركيا مصلحة أكيدة في التعامل الودي مع حكومة إقليم كردستان سياسياً واقتصادياً إذ تعمل نحو 670 شركة تركية في الإقليم، ما يؤسس لنهضة اقتصادية أيضاً في المناطق الكردية في تركيا المتاخمة لكردستان العراق، كما يهيئ الأرضية لتكون تركيا مع العصر في نظرتها الى هذا الواقع الذي يمكن للجميع الاستفادة منه، فانتعاش الاقتصاد بوابة للانتعاش السياسي وإغلاق المسامات التي يتسرب منها العنف. 5 - لقد أحدث حزب العدالة والتنمية بعض الشروخ في العباءة الاتاتوركية بصدد النظرة الى القوميات غير التركية، وما عليه سوى المضي في ذلك من دون التمادي في الخوف من العسكر، فذلك أساس متين لترطيب الأجواء مع الاتحاد الأوروبي ولإبراز تركيا دولة حضارية متأقلمة مع العالم الراهن. وهنا ننوه بأن الحكومة التركية رفعت الحظر نسبياً عن اللغة الكردية وهي تدرس فتح قناة كردية فضائية تبث على مدار اليوم، ولم يعد البحث في الشأن الكردي جناية وجرماً، وهذه علامات وإشارات دالة على طريق طويل لحل المعضلة الكردية، والاستمرار فيه هو العقل والمنطق أما قطعه في منتصف الطريق وإلصاق تهمة الإرهاب في كل نشاط كردي أيّاً كان نوعه، فيربك تركيا قبل غيرها ويضعها في خانة الدول المتخلفة عن العصر، ولا نعتقد بأنها تركيا تريد هذا المصير. 6 - ينبغي على تركيا أن تعيد النظر في الاتفاقية الأمنية المعقودة بينها وبين نظام صدام مطلع ثمانينات القرن الماضي، والتي تبيح للجيش التركي مطاردة الناشطين الأكراد عبر الحدود. وهو مطلب كردي وعراقي مشترك، وستقدم تركيا مثالاً يحتذى إذا أقدمت على هذه الخطوة واستعاضت عنها باتفاقية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وحسن الجوار، وربما سيكون ذلك باعثاً لدول الجوار الأخرى لإعادة صوغ الاتفاقات الأمنية التي انتفت الحاجة إليها مع اختلاف الظروف والأحوال والعلاقات الدولية الجديدة، فهل تلغي تركيا اتفاقية تنتقص من سيادة العراق، وهل تلغي إيران أيضاً اتفاقية 6 آذار مارس لعام 1975؟ لو حدث ذلك فسيكون مدخلاً الى علاقات جديدة للعراق مع هاتين الدولتين الجارتين وتأطير شبكة أواصر الصداقة معهما. * وكيل وزارة الثقافة العراقية.