حزب العمال الكردستاني، هذا العنوان"المتفجِّر"عسكريّاً وسياسيّاً وإعلاميّاً، يحتفل هذه الأيام بمرور الذِّكرى التَّاسعة والعشرين على انطلاقته، وهو تحت الحصار. هذا الحزب اليساري القومي الذي أسَّسه عبد الله أوجلان، وهو طالب في كلِّيَّة الاقتصاد والعلوم السِّياسيَّة في أنقرة، عقد مؤتمره التَّأسيسي يوم 27/11/1978، في قرية نائية، مجهولة على خريطة الجغرافيا الكرديَّة، جنوب شرق تركيا، تسمَّى فيس، تابعة لمدينة ديار بكر. وبذا، دخلت تلك القرية المجهولة، التَّاريخ السِّياسي الكردي المعاصر من أوسع أبوابه. وليس بخافٍ على أحد ان هذا الحزب، في مواجهته للسُّلطات التُّركيَّة، في الوقت عينه، كان يشكِّل تحديَّاً حقيقيَّاً لأميركا، والكثير من دول الناتو، ممن تربطهم بتركيا أحلاف استراتيجيَّة عسكريَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة...الخ، فضلاً عن تشكيله خطراً على النَّماذج التَّقليدية للقيادة السِّياسيَّة الكرديَّة العراقيَّة، التي كانت ولا زالت ترفض أن يزاحمها أحد على إدارة الملف الكردي في الدُّول الإقليميَّة التي تتوزَّع عليها الخريطة التَّاريخيَّة ل"كردستان الكبرى". ومنذ مطلع التِّسعينات، غدا هذا الحزب"القوَّة الأكبر في السَّاحة الكرديَّة. وهو الحزب الوحيد الذي استطاع أن ينتج زعامة شعبية أوجلان، لا تستمد مسوِّغات كاريزميتها من هويَّة عتيقة قبليَّة - عشيرة - عائلة، بل تمكَّن من إنتاج مفهوم حديث للمواطنة، يتأسَّس على كيانيَّة الأمَّة، وليس عضويَّة الانتماء الدَّموي للجامعة المغلقة التي لا ترى في القوميَّة إلا ما يشبه الدُّوغما العقائديَّة الدِّينيَّة، والتي لا تقبل أيَّ نقد أو حوار..."، بحسب رأي المثقف العربي السُّوري عبدالرزاق عيد. وعلى مدى التَّاريخ التركي المديد، المتميّز بصفحات، ربما هي الأكثر دمويَّة في الشَّرق، والذي توَّج أواخر أيامه بمذابح رهيبة ما بين 1915 - 1917، طالت أكثر من 1،5 مليون أرمني من مواطني ورعايا الدولة، لم يتجاوز عمر الواحدة من التَّمرُّدات الكرديَّة والعربيَّة والفارسيَّة في عهد السَّلطنة، والانتفاضات الكرديَّة في زمن الجمهورية الحديثة، أكثر من بضع سنوات، ما عدا حزب العمال الكردستاني، الذي لا زال يُهدر كبرياء العسكر التُّركي، ويقلق ويربك ويحرج السَّاسة الأتراك، حتى بعد اختطاف زعيمه أوجلان سنة 1999 من العاصمة الكينيَّة نيروبي، بمؤامرة دوليَّة شاركت فيها أميريكا وإسرائيل وبعض الدُّول الأوروبيَّة والإقليميَّة، إلى جانب بعض القوى الكرديَّة!. بعد كل الخدمات الأميركيَّة لتركيا في محاربة الحزب، حيث أن 80 في المئة من السِّلاح التُّركي، أميركي الصُّنع، عدا عن أن أكثر من 10 مليار دولار أميركي كانت تقدَّم لتركيا على شكل هبات عسكريَّة، بالإضافة إلى تسليم واشنطن أوجلان لأنقرة...الخ، خذلت الأخيرة أميركا في حربها على العراق سنة 2003، حين رفض البرلمان التُّركي فتح جبهة شماليَّة على العراق انطلاقاً من الأراضي التُّركيَّة، ما خلق فتوراً بادياً في العلاقات بينهما، انسحب على التَّعاطي الأميركي المتجاهل لمخاوف تركيا من التَّجربة الكرديَّة، شمال العراق عموماً، وتواجد العمال الكردستاني في المناطق الحدوديَّة خصوصاً. وبدا المشهد وكأنَّ الشَّرخ الحاصل في العلاقات الى اتساع، على خلفية الممانعة الأميركيَّة لأي اجتياح عسكري تركي لكردستان العراق. وبدا أيضاً أن"المعاندة والرفض"الكردي العراقي للتَّهديدات التُّركيَّة، وكأنها ذات منشأ قومي، يتجاوز المصالح الحزبيَّة الضيّقة، التي تشتهر بها الأحزاب الرَّئيسة في كردستان العراق. لكن معطيات الحال، بعد لقاء أردوغان - بوش في واشنطن يوم 6/11/2007، كشفت عن إحداثيات جديدة للمشهد السَّالف الذِّكر، يمكن تلخيصها في التالي: أولاً، استطاعت أميركا إقناع حليفتها تركيا، بأن تصفية العمال الكردستاني نهائيَّاً، بات في حكم المستحيل. لكنْ يمكن تقويضه، وتقليص حضوره عبر تشديد الحصار عليه تركيَّاً وكرديَّاً وإقليميَّاً وأوروبيَّاً، وتوجيه بعض الضربات العسكرية له في الأماكن التي يتحصَّن فيها، وصولاً لإقصائه عن أيّ حلٍّ محتمل للقضيَّة الكرديَّة في تركيا، الذي لم يعد أمام أنقرة مناص من إيجاده. وعليه، لا مفرَّ من الاعتراف بالرَّاهن الكردي في كردستان العراق، والاستعانة به، بغية إحكام الحصار على العمال الكردستاني. وأيَّ مخطط يستهدف الكردستاني، سيكون مصيره الفشل، إنْ لم يستعين بأكراد العراق، عملاً بمبدأ: لن يلوي الحديد سوى الحديد. وتاريخ الثَّورات الكرديَّة يشير إلى أن الطَّعنة القاتلة، كانت دوماً من الخلف، وكرديَّة المنشأ!. ثانياً، يبدو أن الطَّبع لدى الزَّعامات الكرديَّة في كردستان العراق، غلب التَّطبُّع. فقد ظهر جليَّاً أن كل التصريحات النَّاريَّة"القوميَّة"، الرَّافضة للعودة لدوامة الاقتتال الكردي - الكردي، والدُّخول في صراع مع العمال الكردستاني، نزولاً عند رغبة الأتراك، كانت مجرَّد مفرقعات قوميَّة، الهدف منها الحصول على اعتراف تركي بالكيان الكردي، والمحافظة على العلاقات الاقتصاديَّة الكرديَّة - التُّركيَّة، حتى لو كان العمال الكردستاني"كبش فداء"على مذبح المصالح الكرديَّة العراقيَّة!. وهذا ما بدأت معالمه تظهر، عبر حظر حزب الحل الديموقراطي الكردستاني، وهو حزب عراقي شارك في الانتخابات النيابية، وتضييق الخناق على مخيم مخمور للاجئين الأكراد الأتراك الذين دمَّر الجيش التُّركي قراهم، فالتجأوا لكردستان العراق، ويزيد عددهم في مخيم مخمور عن 12 ألفاً موالين للعمال الكردستاني. بالإضافة إلى إجراءات أخرى متخذة من قبل حكومة إقليم كردستان لتشديد طوق الحصار على الكردستاني، إلى درجة، حشد الآلاف من البشمركه في المناطق الحدوديَّة المتاخمة لجبال قنديل، وإغلاق الطُّرق المؤدية إليها. ويبدو أن الأميركيين والأكراد العراقيين والأتراك وصلوا الى تفاهم مشترك حول سيناريو استهداف العمال الكردستاني في تركياوالعراق عسكريَّاً وسياسيَّاً. ويقضي السيناريو بحظر حزب المجتمع الديموقراطي، الذي له 21 نائبا في البرلمان التركي، ومحاولة الاستفادة من النُّفوذ الكردي العراقي على بعض الأوساط الكرديَّة التُّركيَّة، بغية خلق حالة سياسيَّة بديلة عن العمال الكردستاني واشتقاقاته السِّياسيَّة في تركيا. فالنُّوَّاب الذين من أصول كرديَّة، في حزب العدالة والتَّنمية، لهم علاقات بالقيادات الكرديَّة العراقيَّة. وهذا ما كشف عنه الدُّكتور كندال نزان مدير المعهد الكردي في باريس. وحسب ما يشاع حالياً، تجري لقاءات ومباحثات حثيثة بين بعض هؤلاء النُّوَّاب، وبعض المجموعات السِّياسيَّة الصَّغيرة والشَّخصيَّات الكرديَّة التُّركيَّة المحسوبة على الديموقراطي الكردستاني العراقي، والمناوئة للعمال الكردستاني، كحزب HAKP، والوزير الكردي السَّابق شرف الدين آلجي، والبرلماني السَّابق عبد الملك فرات، عن حزب الطَّريق القويم، التُّركي يمين الوسط، بغية تشكيل تكتُّل سياسي كردي مناهض للعمال الكردستاني، له حضور في البرلمان التُّركي ويمكن تقديمه للرَّأي العام التُّركي والعالمي على أنه ممثل للشعب الكردي في تركيا. وتالياً، يتم إقصاء العمال الكردستاني عن أيّ حلٍّ ممكن للقضيَّة الكرديَّة في تركيا. بديهي أن هكذا سيناريو سيكلِّف تركيا ضرورة الاعتراف بالواقع الكردي في العراق، وبالحقوق الكرديَّة في تركيا. والسُّؤال المطروح على طهاة هذا السِّيناريو من أكراد وأتراك وأميركيين: هل نجحت إسرائيل في إقصاء منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة عن أيّ حلٍّ للقضيَّة الفلسطينيَّة، وهل نجحت إيرلندا في إقصاء الجيش الجمهوري الإيرلندي وجناحه السِّياسي"شين فين"عن مباحثات السَّلام، وهل نجحت إسنانيا في إقصاء حركة"إيتا"عن مباحثات السَّلام في إقليم الباسك، حتي ينجح أردوغان وفريقه من البرلمانيين"الأكراد"المتعاملين معه، الذين صوَّتوا على مذكرة تجيز دخول الجيش التُّركي لكردستان العراق، في إقصاء العمال الكردستاني الممسك بنبض ومزاج الشَّارع الكردي، منذ أكثر من عقدين؟!. * كاتب كردي.