كما كان متوقعاً، فاز "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات البرلمانية التركية، وحاز على ثقة الشعب التركي، والحزب جدير بهذا الفوز بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع توجهه الفكري، وقد شكل أداؤه الاقتصادي المتميز أساس فوزه، إضافة الى بعض الشروخ التي أحدثها في السياقات الأتاتوركية للحكم والتي لم تعد منسجمة مع العصر، خصوصاً في ما يتعلق ببعض الحقوق الثقافية التي منحها للقومية الثانية في البلاد، وهي القومية الكردية. وهذه الحقوق، وإن كانت محدودة وضيقة إلى أبعد حد، إلا أن حزب اردوغان اقترب من خلالها لاقتحام أكبر محرمات السياسة التركية والتي سبق لتورغوت أوزال ان دشنها ولكن مجلس الأمن القومي التركي وقف حينها بالمرصاد. وكما توقعت الدوائر الكردية، والقيادة السياسية في اقليم كردستان العراق، فإن القضية الكردية في تركيا والتهديدات المتواصلة للاقليم الكردي العراقي كانت السلعة الأكثر رواجاً في"البازار"الانتخابي التركي. والمؤلم أن هذا الرواج لم يتخذ شكل تنافس بين الأحزاب التركية على تقديم خطط وأوراق عمل سياسية لحل القضية الكردية على أساس ديموقراطي عملي، بل كان التسابق على اتهام كل حزب للآخر بأنه يتنازل أمام قضية ما يسميه"الإرهاب الكردي"! أو النزعات الانفصالية الكردية، فأشعل حزب"الحركة القومية"التركي اليميني المتشدد معارك كلامية تحريضية تدعو إلى الهجوم الفوري على كردستان العراق لضرب معاقل"حزب العمال الكردستاني"في جبال قنديل، وإعادة العمل بعقوبة الإعدام وتنفيذها بحق عبدالله أوجلان، في حين استمر"حزب العدالة والتنمية"طوال فترة التعبئة الانتخابية في الطرق على وتر التهديدات لأكراد العراق وارسال رسائل غاضبة فيها الوعيد الكثير ولكنها مبطنة بخوف كثير ايضاً من المباشرة بتنفيذ العمليات العسكرية أو الهجوم الكبير، لوجود اعتراض أميركي وأوروبي واضح على خلفية تحاشي زيادة وحول المستنقع العراقي الغارق أصلاً في التعقيد والتشابك الأمني. وأهم ما في الانتخابات التركية أن الأكراد فازوا ب27 مقعداً في مقابل خصومهم الألداء حزب"الحركة القومية"الذي حصل على 71 مقعداً. وبعيداً عن الفارق الرقمي، فإن الأكراد لهم الحق في الشعور بالارتياح، لأن مرشحيهم المستقلين ومرشحي حزب"المجتمع الديموقراطي"الموالي لهم والذين أصبحوا نواباً في البرلمان، سيكونون منذ الآن الناطق الرسمي الشرعي للأكراد في برلمان تركيا، وسيعمل هؤلاء على الترويج لبرنامجهم الواقعي القائم على التصالح بين الأكراد والأتراك، ومنع اللجوء الى الحل العسكري للقضية الكردية، وهو الحل الذي عجز عن اصطياد السمكة على رغم تجفيف البحر، كما عبّر الكاتب الكردي يشار كمال عام 1995 في مقال له في مجلة"دير شبيغل"الألمانية، واثبات عدم جدوى الهجوم على كردستان العراق، ومطالبة النخب التركية بتوسيع رقعة الحقوق الثقافية والسياسية الكردية تجنباً لاستمرار تآكل السمعة التركية دولياً. وإذا كانت الغالبية الإسلامية لن تحقق المطالب الكردية كلها بسهولة ويسر، فإنها على الجانب الآخر لن تخاطر في عقد تعاون غير مشروط مع القوميين الأتراك في ما يخص التعامل مع الجوار الاقليمي ومع التركة الأتاتوركية، أو النظرة المتحفظة والعدائية على طول الخط للقضية الكردية، لأن في ذلك مخاطرة كبيرة ولا تجلب لتركيا إلا المزيد من الأزمات والعزلة والابتعاد عن مناخ العالم الراهن. إن أكراد تركيا وكذلك"حزب العدالة والتنمية"لهم مصلحة في هذا التطور الايجابي المتمثل في دخول نواب أكراد الى البرلمان، فهم يشكلون، إذا أحسنوا الأداء وإذا لم تغلق الأبواب بوجههم مثلما حصل مع البرلمانية الكردية ليلى زانا وزملائها أوائل تسعينات القرن الماضي جسراً بين الحكومة والعسكر وبين الثوار الاكراد وإن بشكل غير رسمي، ويتخلص"حزب العدالة والتنمية"من حرج تهمة الاتصال مباشرة ب"حزب العمال الكردستاني". وتستطيع تركيا الآن ان توظف الوجود الكردي في البرلمان، بشرط عدم التضييق عليه، لإزاحة تهمة العداء الكلاسيكي للاكراد. ان الوجود الكردي الفاعل في البرلمان التركي اضافة الى وجود عشرات من رؤساء البلديات الاكراد في كردستان تركيا منذ عام 2002 يعني ان الهوية الكردية تتبلور اكثر فأكثر ومن خلال اطر قانونية، وان كردستان رقم صعب لا يمكن كالسابق تجاوزه. ان العقلانية والعمل بمرونة وعلى نار هادئة مع الاحزاب التركية في البرلمان يفتحان املاً كي يصبح الحوار وليس لغة السلاح والعنف طريقا لحل الشأن الكردي في تركيا، ويجدر الذكر ان النواب الاكراد الحاليين عليهم التحلي بأقصى قدر من الحذر واليقظة لعدم الوقوع في حبائل مواد دستورية وقانونية قد تفرض عليهم الإقصاء والسجن، مثلما حصل مع ليلى زانا التي أرادت تجاوز كل الموانع دفعة واحدة ورفضت في حينه أداء القسم الدستوري باللغة التركية ودعت الى دولة كردية تعترف بها تركيا فاتهمت بالتعاون مع"حزب العمال الكردستاني"وخسر الأكراد فرصة مواتية لأسباب شكلية كان يمكن تجنبها، ولعل دعوة ليلى زانا الحالية الى الفيديرالية في تركيا تؤكد نزوعها الى الحل الواقعي. ولذا فالنواب الاكراد حالياً عليهم العمل الدؤوب من دون لغة شعاراتية استفزازية وعليهم اثبات انهم مؤهلون لحمل الأمانة، مثلما يجدر بهم توظيف الموقف الايجابي الاوروبي من القضية الكردية في تركيا، وحينها ستضطر الحكومة التركية نفسها، وإن على مضض، الى اعتبارهم وسيطها للحل وغض النظر عن خيوطهم الموصولة سراً بالاحزاب الكردستانية في تركيا، وإذا كانت تركيا قد استوعبت الدرس فإنها ستجعلهم واجهتها للتفاوض والحوار وصولاً الى الحل السياسي لمشكلة كلما تقادمت انهكت تركيا ووسعت الشرخ في ديموقراطيتها وأبعدتها أكثر فأكثر عن أمل الانتماء للأسرة الأوروبية. * كاتب كردي