تتباين مناهج البحث التاريخي المعاصر في قراءة التراث، وبيان إشكالياته المختلفة التي يتصورها البعض قد انتهت واستنفدت فرصها في الوجود بانتهاء الزمن التاريخي الذي أنتجها، ودخولنا مرحلة جديدة نوعية هي الحداثة. ومقابل ذلك، يعتقد باحثون آخرون بأن امتداد التراث، وهيمنته على العقل والسلوك ونظام القيم، يسوغ دراسته ونقده كسلطة معرفية مهيمنة تحتاج الى تفكيك، للتحرر من أعباء الماضي كشرط أولي للانطلاق نحو المستقبل، وعليه فإن عملية مقاربة التراث بكليته وإخضاعه للمساءلة، ومن ثم للرفض والإزاحة، هي في حقيقتها مقاربة تتجاهل أهمية التمييز والتصنيف، ومستويات المعطى التراثي، وضرورة المفاضلة بين الأزمنة التي تحتاج لإعادة نظر وتحقيب جديد. وقد فتحت هذه النظرة العدمية للتراث ثغرة لنفاد النزعة الانتقائية لاختيار العناصر الحية، ورفض العناصر الميتة، التي لا تخدم أهداف الحاضر والمستقبل، وتحدد مقياس الحياة في هذه العناصر هو فائدتها وفاعليتها، وهي نظرة وظيفية قاصرة. وقد أفاض الفكر النهضوي في الحديث عن التأصيل النظري للتراث، وضرورة تملكه ونقله من الإشكالية الى مستوى النظرية لأهداف علمية، بعيداً من التوظيف الأيديولوجي، إلا أن تضارب المصالح والمرجعيات أدى لتناقض في الغايات، ما خفض قيمة النتائج، وأبقى التحليل في نطاق التهديم المتواصل، وزحزحة الأفكار والعقائد والنظريات عن مكانتها الأولى، أما الانتقال الى مستوى البناء والتركيب وطرح البدائل، فما زال في المشاريع الكبرى مصدراً إضافياً للتناقض، أبقاها في شلل معرفي دائم، لأنها تقع في مركز التناقض الذي يتجاذبها من جميع الجهات. وما تحتاجه النظرية التراثية التي تضخمت اليوم الى أبعد حد هو ممارسة فعلية مطابقة لها سياسياً واجتماعياً. ولا يعني ثراء وديناميكية المقاربة النظرية ثراء وديناميكية الواقع، بل انها فرضت نفسها بديلاً محتملاً أو معادلاً معكوساً للواقع في حركته الظاهرية، خصوصاً في المجال السياسي، أساس التغيير والإصلاح، وقد تمت المصادقة على ديناميكيته الموضعية، التي لا تتقدم ولا تتطور الى الأمام وحذف الخيارات الأخرى لشل المطالب الجذرية بالتحرر والإصلاح. وعلى رغم الأهداف العلمية للبحث في التراث، إلا ان ضرورات الواقع فرضت نفسها فرضاً على المفكرين النهضويين، فالحاجات والرغائب محرك حيوي للعلوم التاريخية، وإلا فالاستفسار الساذج عن جدوى دراسة التاريخ، وفائدة الاهتمام بالماضي في عصر العلم والعولمة والعمل المنتج، يصبح تساؤلاً مشروعاً مفعماً بالحكمة العقلية والتأمل الواقعي. ومن القضايا التي شغلت الفكر العربي المعاصر غياب الحرية والعقلانية عن الواقع، ومن أجل إقلاع ناجح للمجتمع العربي نحو المستقبل لا بد لنا من إيجاد مثل أعلى تسير اليه حركة التاريخ لتعزيز الثقة والإرادة الانسانية لتحقيق النهضة، ونظراً الى تباين مرجعيات الفكر العربي، فقد استحوذت شروط التقدم والتأخر على النصيب الأكبر من التحليل والاستشراف، واعتبر التيار الليبرالي ان التراث عقبة في وجه التطور اللازم لاستئناف النهضة، ولا بد من استعارة شروطها ومعاييرها من الخارج، وانطوت الشروط على التصريح والتلميح بضرورة التخلي عن التراث، ما دفع التيارات المضادة لتقديم تصورها المعاكس، فالتاريخ بالنسبة اليها مستودع الداء والدواء، ولا بد قبل تشريح الواقع التاريخي من نقد تشريح التاريخ الواقعي المسؤول عن أزمة الواقع الراهن، وعلى هذا الأساس تم تثمين لحظة الاعتزال في الحضارة العربية الإسلامية كمصدر للعقلانية والحرية، واعتبرت تلك العقلانية التراثية في شكل أو آخر كافية بحد ذاتها لتحقيق مهمات الواقع والمستقبل بتوسيع نطاقها لتشمل ابن رشد وابن خلدون. وفي المقابل ركز الفكر النهضوي في سياق تفسيره للتأخر ورصد مظاهره كالجمود والاستسلام للأمر الواقع، وإعلاء قيم الخضوع والطاعة والقضاء والقدر على تحميل فرقة الأشاعرة مسؤولية هذا التراجع والتأخر الذي بدأ بالردة الرجعية، وانقلاب الخليفة العباسي المتوكل على الاعتزال قبل تبلور المذهب الأشعري بخمسين سنة، وفي هذا السياق مثّل المعتزلة العقلانية والحرية وكرامة الإنسان القادر على اختيار أفعال ومسؤوليته الشخصية في الدنيا والآخرة، وعلى رغم اندثار الفرقتين، إلا أن تأثيرهما بقي فاعلاً، وخصوصاً الأشاعرة التي عززت انتصارها بتقنين أدوات التفكير وتحصيل المعرفة وتنميط العقل والسلوك العربيين سياسياً ودينياً تحت شعار الوسطية، أي التوسط، بين الجبرية وحرية الاختيار عند المعتزلة. وفي التحليل الموضوعي لنظرية الكسب، جوهر المذهب الأشعري لا تجد في التحليل الأخير إلا نظرية الجبر التي تجاوزها علم الكلام المعتزلي تاريخياً ومعرفياً. كما جاء في تحليلات الجابري وحسين مروة وحسن حنفي، فقد عبر الجبر عن مرحلة تاريخية سابقة تمثلت باغتصاب الأمويين للخلافة وتحويلها الى ملك، وتبنوا عقيدة الجبر كأيديولوجيا رسمية لتسويغ هذا الانتقال والردة عن المثل العليا التي حددها الإسلام للحكم الصالح، وبدا الجميع في عقيدة الجبر من معاوية وحتى أضعف المسلمين مجرد أدوات سلبية لتنفيذ الإرادة الإلهية، فما تم هو قضاء وقدر وعلى المسلمين القبول بقسمتهم الإلهية، وعلى الرافضين انتظار قدر آخر أو مهدي منتظر. ومع انهيار الدولة الأموية وسقوطها، سقطت نظرية الجبر، وانفتحت الخلافة العباسية على شتى التيارات والحضارات، وعملت على تأسيس مصادر شرعيتها الجديدة على العقلانية والتحرر والمسؤولية الشخصية، فتبنت في شكل أو آخر عقيدة الاعتزال التي وفرت لها هذه المسوغات. في العهد العباسي الأول وخاصة بعد عهود المأمون والمعتصم والواثق، دخلت الخلافة العباسية مرحلة الأزمة والانحطاط بظهور العنصر التركي المتحكم بالمجالين السياسي والعسكري، وهو العنصر الرعوي الخادم المتبطل المستقدم من صحاري آسيا الوسطى، الذي لا يعرف ولا يؤمن بالعقلانية ولا التحرر، وهو الذي مهّد السبل للخليفة المتوكل للانقلاب على المعتزلة، حراس العقل والحرية، القيمتين اللتين لم يعد لهما جدوى أو منفعة بوجود الجند التركي. وبهذه المصادرات، بدد المفكر المعاصر شعوره بالقلق من التأخر التاريخي المركب الذي يحيا فيه بعد فك أسرار الحاضر بقراءة الماضي، ورد الواقع الى أصوله التاريخية، فالتأخر إذاً واقع تاريخي بدأ مع انقلاب الحكم العباسي على المعتزلة، وسيطرة الأشاعرة على العقل العربي السني من إنتاج منظوماته المعرفية الكبرى فقهياً وسياسياً، وعندما حلم وبحث عن شروط التقدم، بدد شعوره بالغربة من طريق استدعاء نموذج تاريخي أبدعته الذات العربية، وهو الحرية والعقلانية التراثية المعتزلة وابن رشد، واستأثرت هذه النقطة بالاهتمام البالغ من اصحاب المشاريع التركيبية في الفكر المعاصر كما هي عند د. حسن حنفي ود. طيب تيزيني ود. الجابري ود. محمد أركون والمفكر الشهيد د. حسين مروة. الذين أجمعوا على ان نظرية الكسب الأشعرية هي اعادة إنتاج لنظرية الجبر الأموية على رغم القشرة العقلانية التي تغطيها. وأصبحت نوستالجيا الفكر المعاصر للمعتزلة الذين جسدوا العقلانية والحرية مطلباً مشروعاً ملحاً يجب تحقيقه على رغم تجاوزه تاريخياً ومعرفياً منذ زمن بعيد بالفلسفة الإسلامية. إلا ان الفلسفة نفسها لم تستطع النهوض بأعباء المرحلة التالية لعلم الكلام، وتحقيق النهضة على غرار الفلسفة الغربية التي نهضت بمهماتها في أوروبا، فقد تكسرت الفلسفة الإسلامية على صخرة الأشاعرة كما تكسّر علم الكلام المعتزلي قبل ذلك، وتم تجاوزهما لاحقاً بحركة التاريخ الشامل، والنهضة الأوروبية التي أزاحت العقل الأرسطي جذر العقلانية الرشدية في الشرق والغرب. وشهد الواقع العربي مقارنة بأوروبا تراجعاً حضارياً تضاعف مع تقدم الغرب، وأثبتت أحداث الواقع الراهن ان المراهنة على المعتزلة والعقلانية التراثية أو ربط الأشاعرة بالتأخر والجمود عملية قاصرة عن الإحاطة بمجمل حركة الواقع وطبيعة التأخر والتقدم لأسباب عدة منها: السبب الأول: ان أعظم أعلام الاعتزال نشأ ونشر مذهبه بعد المتوكل بعشرات السنين، وأقصد المعتزلي الكبير الجبائي 303 هجري، والقاضي عبدالجبار 415ه. السبب الثاني: ان الاعتزال لم يترك لديناميكيته الذاتية، معرفة حدوده وآفاقه، فقد دلت نشأته على قدرته على التطور والانتشار من خلال قيامه في بيئة معادية مناصرة للأمويين والجبرية. وعندما انهار، انهار أولاً بالقمع والتنكيل السياسي، ولم يهزم فكرياً وعقائدياً، وهذا ما لا يوافق عليه المفكر الفلسطيني د. فهمي جدعان، الذي أولى هذه المسألة عناية خاصة. السبب الثالث: لم يكن في زمن الأشعري الذي انقلب على أسياده المعتزلة، وأعلن الحرب عليهم، معتزلة كبار، فقد قضى في زمن المتوكل أو قبله عظماء المعتزلة كالنظام 231ه، وأبي هذيل العلاف 235ه، وبشر بن المعتمد 227ه، وأحمد بن ابي داود 240ه. ولم يجد الأشعري من يحاوره إلا أشباح المعتزلة بدعم مطلق من أسياده خلفاء بني العباس. السبب الرابع: حصر القضية في المجال السني، وتجاهل علم الكلام الشيعي، الذي وقف موقفاً وسطاً بين المعتزلة والأشاعرة حيناً، أو انحاز لهذا الطرف أو ذاك حيناً آخر. ففي القضية الجوهرية، وهي حرية اختيار الإنسان لأفعاله، وقف علم الكلام الشيعي ممثلاً بمأثور الإمام جعفر الصادق القائل"لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين". السبب الخامس: ان الوسطية الأشعرية التي ثمّنها د. فهمي جدعان هي في حقيقتها وسطية زائفة، أعادت إنتاج الجبرية وسوغت تمايزها نزعة عقلانية شكلية كما يقول د.حسين مروة ود. حسن حنفي، وانبرت لاحقاً لمناهضة الفلسفة وحصارها للقضاء عليها، كما قضت على علم الكلام المعتزلي. وفرضت على الفلسفة الحذر والتقية، وجعلت مصطلحاتها وانشغالاتها أكثر غموضاً، وأصبحت خطاباً موارباً متردداً، على رغم الإشارات المادية والعقلانية التي لا تنفي خطها العام، وبقيت جزيرة معزولة لم تتحول الى مدارس فلسفية مستقلة في حواضر العالم الإسلامي كما حصل مع اللغة والنحو والمذاهب الفقهية. والسبب السادس: تجاهل طبائع العمران بلغة ابن خلدون في قيام الدول والحضارات وانهيارها، وإغفال دور العوامل الخارجية التي أثرت في الحضارة الإسلامية ونواتها العربية: كالغزو المغولي والصليبي والحكم العثماني وما شابه. وبالتالي، فقد بقي الفلاسفة والعلماء أفراداً معزولين ومنعزلين لا يمتلكون السلطة المعرفية أو الوفاق الدائم مع السلطة السياسية لفرض وجودهم، وحماية أفكارهم من الخليفة المتعسف، والفقيه الأشعري المستبد المتحالف معه، وهذا يعيدنا لجذر المسألة، أي للمجال السياسي عقلاً وممارسة لتفسير التقدم والتأخر.