إذا كان من السهل دائماً القول إن للأدب فضلاً كبيراً على السينما، على اعتبار أن عدداً من أهم الأفلام في تاريخ الفن السابع، انما اقتبس من أعمال أدبية، لا بد من القول في الإطار نفسه، وإن في شكل تعويضي أن للسينما، وفي شكل دائم، فضلاً إن لم يكن على الأدب، فعلى الأدباء على الأقل. ولتوضيح هذا الأمر نشير الى أن السينما نادراً ما أعطت عملاً أدبياً حقه لأن اللغة البصرية السينمائية لا توفق دائماً في نقل خيال المؤلف كما يفترض به أن يكون الى الشاشة، ولكن في المقابل نعرف أن السينما تحيي بعض عظام الأدب وهي رميم. ولعل أحدث مثال على هذا، الفيلم الذي حققه وكتبه بول توماس اندرسون بعنوان"ستكون هناك دماء"عن رواية كانت الى شهور قريبة مطمورة تماماً في وهاد النسيان، وها هي الآن ملء السمع والبصر، كما ان كاتبها عاد فجأة الى الواجهة بعد عقود طويلة من موتيه المادي والمعنوي. ونتحدث هنا، طبعاً، عن رواية"نفط"، لآبتون سنكلير. في مثل هذه الحال، سواء كان الاقتباس السنيمائي جيداً أو سيئاً، أقل قيمة من العمل الأدبي، أو أكثر قيمة منه كما في حال"ستكون هناك دماء"، يبقى أن انتشار السينما وسرعة وصولها الى الناس يوصل معه سيرة الأديب واهتمام الناس المتجدد بكتبه، ما يعطيه حياة جديدة. إديث وارتون، الكاتبة الأميركية التي مضى الآن على رحيلها نحو ثلاثة أرباع القرن، كانت قبل سنوات من الذين استفادوا من اهتمام السينما بهن. وكيف لا والسينمائي الذي قاد الاهتمام هو مارتن سكورسيزي الذي حقق عام 1993 واحداً من أكثر أفلامه هدوءاً وأناقة انطلاقاً من روايتها"سن البراءة". يومها وبعد نسيان طويل، نسبي على أي حال، أطلت وارتون من جديد على الحياة الاجتماعية والأدبية الأميركية، والعالمية أيضاً من خلال ترجمة تلك الرواية وروايات أخرى، خصوصاً أن السينمائي الإنكليزي تيرنس دايفيز الذي يقل شهرة عن سكورسيزي لكنه لا يقل أهمية عنه من الناحية الفنية عاد بعد ذلك بسنوات قليلة الى تحقيق فيلم آخر، عن رواية أخرى للكاتبة نفسها عنوانها"بيت العابثين"وهكذا بين هذا الفيلم وذاك اكتشف القراء أو أعادوا اكتشاف كاتبة غزيرة الإنتاج، كانت ذات حضور قوي في الأدب الأميركي خلال نصف قرن، شمل الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من العشرين. ذلك ان المفاجأة، بالنسبة الى الذين لم يكونوا يعرفون شيئاً عن إديث وارتون سوى اسمها وبضعة عناوين من تأليفها، كانت ان هذه الكاتبة أصدرت خلال حياتها أكثر من سبعين كتاباً معظمها روايات، وكانت من سرعة الكتابة وخصوبة الخيال انها كانت تصدر أكثر من رواية في العام الواحد، وكان ملايين القرّاء المعجبين يتهافتون لشراء ما يصدر لها، فيطبع مرات ومرات. ومع هذا لا بد من القول إن معظم أدب إديث وارتون كان من الأدب الكبير، وليس أدل على هذا من اهتمام سكورسيزي ودايفيز بالاقتباس عنها، وتحديداً عن روايتين ربما هما الأشهر من بين أعمالها، علماً أن نقاداً ودارسين كثراً يرونهما مترابطتين، أو على الأقل يرون أن"بيت العابثين"التي صدرت عام 1905 أثارت من العواصف داخل الكاتبة، ما جعلها لاحقاً، وبعد 15 سنة تكتب"سن البراءة"وكأنها معادل تعويضي لها. مهما يكن فإن"سن البراءة"تبقى الأشهر بين روايات وارتون. من هنا، ولأن الرواية تدور أحداثاً في نيويورك عند نهايات القرن التاسع عشر، كان من المنطقي لسكورسيزي الذي لم يتوقف في معظم أفلامه عن مقاربة مدينة نيويورك وحياتها، أن يغوص في تاريخ المدينة ليحكي عن طبقاتها الاجتماعية. وهنا في هذه الرواية بالتحديد عن الطبقة العليا. ونعرف انه، لاحقاً، حقق فيلماً آخر"تاريخياً"عن نيويورك غاص من خلاله في تاريخ حثالة المدينة. كان ذلك في"عصابات نيويورك"العمل الرائع الذي جعل فيه الدور الرئيس لدانيال دي لويس، معطياً إياه دور زعيم العصابة الجزار القاتل، بعدما كان أعطاه في"سن البراءة"دوراً مختلفاً تماماً. وهكذا إذاً، من خلال المدينة وشتى طبقاتها، في الفيلمين. ومن خلال دانيال دي لويس، أكمل سكورسيزي دائرة تطويق تاريخ مدينته الأثيرة في الوقت نفسه الذي أعاد الى الحياة في الفيلم الأول طبعاً أدب وارتون التي كانت بدورها نيويوركيةأصيلة، تنتمي الى الطبقة العليا في المدينة، بحيث أن كثراً اعتبروا"سن البراءة"جزءاً من سيرتها الذاتية. في الرواية، كما في الفيلم الذي جعله سكورسيزي شديد الأمانة لنص الكاتبة، نجدنا منذ البداية أمام المحامي الشاب نيولند آرتشر، الذي ارتبط في سبعينات القرن التاسع عشر من طريق الخطبة بالآنسة ماي ويلاند، التي تنتمي الى أعلى طبقات المدينة وهي على أية حال من أجمل جميلاتها، حتى وإن كانت مجرد فتاة تقليدية من سيدات المجتمع، ما يتناقض أصلاً مع ما كان نيولند يتطلع إليه. في البداية لا يبالي نيولند بهذا الأمر، معتبراً أن من مهماته هو أن يقلب حياة خطيبته ويجعلها متوسعة في اهتماماتها. لكنه بعد حين، وإذ يلتقي بابنة عم ماري الكونتيسة إيلين اولنسكا، يجد نفسه، أمام شخصية هذه الأنثى الحيوية وجمالها الصارخ - مقابل جمال ماي الهادئ - مندفعاً الى طرح أسئلة عن حبه ووجوده، وخصوصاً حول الحياة التي يخططها لنفسه مع هذه الخطيبة. كان من الواضح أن نيولند بدأ يكن اهتماماً كبيراً بالكونتيسة خصوصاً حين يعرف أنها طالبة الطلاق من زوجها الكونت البولندي، الذي لا يكف عن الإساءة إليها دافعاً إياها الى هامش المجتمع، مسبباً الغيظ لها وبالتالي لأسرتها التي تجد نفسها مطحونة بين الفضيحة والكارثة، بين ضوابط المجتمع ورغبات البشر، كما هي الحال في أدب إديث وارتون كله، هذا الأدب الذي نهل دائماً من ذلك الصراع الأبدي بين الفرد والجمع. المهم في الأمر أن نيولند، يزداد أكثر وأكثر اهتماماً بإيلين، من ناحية بصفته محامياً ولكن من ناحية ثانية لدوافع شخصية عميقة، ذلك أنه في وجود هذه المرأة، التي إذ راح في الوقت نفسه يقنعها بعدم الضغط للحصول على الطلاق، بدأت تشعره بحقيقة الأوهام التي صنعها لنفسه حين قرر يوماً أن يتزوج من ماي، ها هو الآن يحس أنه لم يحب ماي أبداً... كل ما في الأمر أنه كان يحس بأنها يمكن أن تكون زوجة جيدة لا أكثر. أما الآن فها هو راغب في أن تكون امرأة حياته، أكثر من مجرد زوجة. وهذا ما سيخيل إليه معه الآن أن إيلين هي الأقدر على توفيره له. ومن هنا يصبح السؤال، في الرواية كما في الفيلم عما إذا كان نيولند سيتبع بالتالي نبضات قلبه، الذي راح يعقلن رغباته، أم سيتبع القواعد الاجتماعية التي تتطلب منه التمسك بتلك الخطيبة. إنه السؤال المركزي، ليس فقط على الصعيد الشخصي بالنسبة الى نيولند، بل على الصعيد الاجتماعي ككل. ذلك أن شخصية المحامي الشاب هنا، إنما هي كناية عن طبقة بأسرها وذهنية جديدة داخل هذه الطبقة، ما يجعل رواية اديث وارتون هذه تبدو، أشبه برواية لهنري جيمس، أحد أكبر الروائيين الاجتماعيين المؤسسين في ذلك الحين. ولدت اديث وارتون 1862 - 1937 كما أشرنا في نيويورك لأسرة من سراة القوم. وهي، بقدر ما رصدت حياة أهلها والطبقة التي ينتمون إليها، عرفت لاحقاً حين بدأت كتابة الرواية والقصة القصيرة قبل أن تتخصص في التصميم المنزلي -، كيف ترسم على الورق كل ذلك الرصد وكل تلك الحياة. وهي على رغم أن اسمها الأصلي إديث نيوبولد جونز، وقعت منذ أولى منشوراتها باسم إديث وارتون، حيث ان اسم وارتون أخذته من زوجها حين اقترن بها وكانت في الثالثة والعشرين. وكان هو من أسرة غنية من بوسطن. وإديث، إضافة الى عشرات الكتب التي أصدرتها، بنت بنفسها أيضاً عزبتها الشهيرة باسم"ذا ماونت"الجبل في خراج بلدة لينوكس، بولاية ماساتشوستس، ولا يزال هذا المبنى الأنيق موجوداً حتى اليوم يحمل البصمات الأنيقة للكاتبة، التي ماتت لاحقاً في فيلا تملكها في فرنسا. [email protected]