نجح الرئيس العراقي جلال طالباني خلال زيارته أنقرة بالخروج بنظرة مشتركة لمستقبل العلاقات بين بلاده وتركيا والاهم بين اربيل وانقرة، بل وانه أحرج الأوساط العسكرية التركية التي أحجمت عن استقباله او حتى على توفير الحماية له، عندما أصر على زيارة ضريح مصطفى كمال اتاتورك والتوقيع في دفتر الضيوف هناك مشيراً الى احترامه وتقديره للتجرية العلمانية الديموقراطية في تركيا التي يعتبر الجيش نفسه حامياً لها وحارساً عليها. الوفد العراقي الذي ترأسه طالباني جاء موحداً، يعرف ما يريد ويدافع عن مواقفه بحجج مقنعة، على رغم اختلاف تركيبته الطائفية والعرقية، فيما ظهرت انقرة منقسمة بين حكومة سعت للاحتفاء بأقصى درجة بضيفها وبين جيش رافض للزيارة ومقاطع لها. واذا ما اضفنا الانطباع الذي ساد عالمياً قبل اسبوع من الزيارة من ان تركيا اضطرت لسحب جنودها من شمال العراق فوراً تحت ضغط أميركي، تكون زيارة الطلباني قد جاءت لدولة مسلوبة الارادة تتشتت سياساتها بسبب انقسام داخلي وضغوط خارجية، وهو ما ليس بصحيح وإن أوحى ظاهر الأمور بذلك. وكما قال طالباني ملخصاً، فإن بين العراقوتركيا مصالح ومصائب مشتركة، والمصائب تزيدها عثرة مهمة تبرز في عدم الثقة المتبادل بين الطرفين، فأنقرة لا تثق في جدية البناء السياسي الجديد في العراق ولا بقدرة بغداد على الفعل والالتزام ? لذا فضلت منذ عام 2003 اتخاذ واشنطن كمخاطب اساسي في كل القضايا التي تجمعها بالعراق -. كما انها تتهم قيادات كردية في شمال العراق وعلى رأسها مسعود البرزاني بغض الطرف عن نشاط حزب العمال الكردستاني وتوفير الدعم اللوجستي له، ناهيك بالقلق القديم المتجدد في شأن مستقبل إقليم كردستان العراق وأحلام الدولة الكردية، وصولاً الى موضوع تقاسم الثروة في كركوك وتقاسم أراضيها والحكم فيها. أما الجانب العراقي فشكوكه قديمة في شأن حقيقة النيات التركية في ما يخص تدخلات أنقرة العسكرية في شمال العراق، وعلاقة تركيا بتركمان العراق والبكاء على ولاية الموصل والتذكير بأنها"انتزعت"من تركيا، بالإضافة الى النظرة القومية التركية المتطرفة الى اكراد العراق. وشكك المسؤول العراقي، والكردي بالتحديد، في التزام الحكومة التركية وتجاوبها معه في مختلف القضايا، طالما انه يجب حساب وجود المؤسسة العسكرية التركية في كل صغيرة وكبيرة واحتمال ان الكلمة الاخيرة قد لا تكون للحكومة بدليل ما حدث من مقاطعة الجيش لزيارة الرئيس العراقي. المصالح قبل المشاكل لكن الساعة والعشرين دقيقة التي اجتمع خلالها الرئيسان التركي والعراقي منفردين كانت كافية للخروج بهذا التصور المشترك لمستقبل العلاقات بين البلدين، بفضل حوار صريح اكد تقديم المصالح على المشاكل، كما أكد وجود نية حقيقية لحل المشاكل بعقلانية والتخلي عن المواقف القومية المتشددة او التوقعات المبالغ فيها. الرئيس التركي عبدالله غل قبل فكرة ضيفه إجراء حوار مباشر مع حكومة اقليم كردستان العراق من أجل طرح حل متكامل لجميع مسائل الخلاف من كركوك الى حزب العمال الكردستاني وتطبيع العلاقات مع الإقليم الكردستاني، لكن هذا الحوار لن يكون علنياً أو رسمياً الى حين التوصل بالفعل الى خريطة طريق توضح خطوات العمل التي سيقوم بها الجانبان لحل هذه المسائل. لكن المهم هو وجود النية في فتح صفحة جديدة بين الطرفين، والنظر الى علاقاتهما من زاوية المصالح المشتركة وليس من زاوية الشك في نيات الآخر. الشخص المعني هنا بالحوار المباشر هو رئيس وزراء كردستان العراق نتشيروان البرزاني الذي اظهر براغماتية سياسية جيدة في ادارة مرحلة العمليات العسكرية الجوية والبرية في شمال العراق التي بدأت في كانون الأول ديسمبر العام الماضي، علماً أن جلال طالباني دافع بقوة عن شريكه ومنافسه السياسي مسعود البرزاني في أنقرة، إذ ذكر المسؤولين الاتراك بفترة التسعينات الماضية حيث كانت العلاقات بين مسعود البرزاني وتركيا متميزة قبل أن ينقلب جنرالات تركيا عليه وتتخذ الخارجية التركية موقفاً منه بسبب ما حققه اقليم كردستان العراق من ميزات في عهد العراق الجديد. تشريح العمليات العسكرية دعوة أنقرة الرئيس العراقي الى زيارتها وُجهت في الوقت الذي بدأ الجيش التركي توغله البري في شمال العراق بعد ساعة واحدة من انتهاء اجتماع مجلس الامن القومي التركي المعتاد في 21 شباط فبراير الماضي. والدعوة التي جاءت بعد موافقة المجلس بجناحيه العسكري والسياسي، كانت ضرورية لابداء انقرة التزامها بمخطط الخامس من تشرين الثاني نوفمبر الذي اتفق عليه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان والرئيس الأميركي جورج بوش في واشنطن في ذلك التاريخ، والذي يتضمن خطة شاملة لانهاء ملف حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية في تركيا وعلاقات تركيا مع اكراد العراق. وهي الخطة التي اقنعت بوش بالقول إن حزب العمال عدو مشترك لتركيا وأميركا والعراق، ودفعته الى تقديم الدعم العسكري والاستخباراتي للجيش التركي ضد عناصر الحزب الموجودين في شمال العراق، بل وتسخير الديبلوماسية الأميركية للضغط على أوروبا ودول اخرى من أجل توفير مناخ عالمي يدعم التوجه التركي لحل هذه القضية من جذورها. وما كان ذلك ليحدث لولا تقديم اردوغان خطة شاملة ? على الاقل نظرياً ? تخرج للمرة الأولى عن الحلول العسكرية المعتادة الى خطوات سياسية جريئة تبدو تركيا مستعدة لاتخاذها لحل المسألة الكردية ولكن بعد تحييد السلاح وتخلي الحزب الكردستاني عن النهج العسكري واقتناعه بضرورة إفساح المجال للحوار السياسي السلمي. لذا جاءت تصريحات الجنرالات الأميركيين أخيراً لتشير الى أن الهدف من العمليات العسكرية التركية، هو الضغط الى اقصى درجة على الحزب الكردستاني لاقناعه بترك السلاح، وهو ما يعني ايضاً ان العمليات كان مخططاً لها ان تزداد كثافة بالتدريج لتصل الى التوغل البري. ودعوة طلباني لزيارة تركيا اكدت التزام انقرة بالحل الشامل السياسي وان كل خطوة عسكرية ستتبع بأخرى سياسية تدعمها كتأكيد للتخلي عن السياسات التركية القديمة التي تركزت على لغة السلاح. ومن نافل القول ان التوغل البري التركي جاء بالتنسيق والتفاهم مع واشنطن التي طلبت بأن يكون محدوداً وألا يمتد الى ما بعد منتصف آذار مارس بحيث لا يقترب من موعد عيد الربيع النوروز الكردي، ومن أجل إفساح مجال اكبر للديبلوماسية، إذ من المفترض عقد اجتماع في اسطنبول نهاية الشهر الجاري يجمع مسؤولين أميركيين وأوروبيين من اجل بحث اعتقال وتسليم قيادات سياسية في حزب العمال الكردستاني تقيم في أوروبا وتدعم النهج العسكري للحزب وترفض التخلي عنه. لذا فإن واشنطن كانت تدرك أن العملية التركية ستمتد ما بين أسبوع وأسبوعين فقط وستستهدف نقاطاً بعينها ولن تكون توغلاً كبيراً. وبناء عليه إن التصريحات الأميركية المتكررة على لسان وزير الدفاع روبرت غيتس بضرورة انسحاب تركيا بأسرع وقت من شمال العراق، كانت تهدف في المقام الاول لتهدئة الخواطر الكردية في العراق، بعد أرسال مسعود البرزاني رسالة للرئيس بوش تطلب منه التدخل لاخراج الجيش التركي من أراضي العراق، وهو ما دفع بوش للحديث أيضاً في هذا الموضوع للحفاظ على"شعرة معاوية"مع حلفائه الاكراد في العراق. ومن هنا إن انسحاب الجيش التركي بعد اقل من أربع وعشرين ساعة فقط على زيارة غيتس أنقرة كان محض صدفة كما قال رئيس الاركان التركي الجنرال يشاربيوك انيط، والانطباع السلبي الذي تشكل نتيجة تلك المصادفة سببه سوء التنسيق داخلياً في تركيا وليس الضغوط الأميركية. فالتوغل البري لم يسقط اي ضحايا بين المدنيين العراقيين ولم يصل الى المناطق التي تسيطر عليها البيشمركة العراقية، وبالتالي كان توغلاً"نظيفاً"، يمكن اعتباره درساً لأميركا في تحييد المدنيين عن محاربة الإرهاب، بغض النظر عن الخسائر المادية التي أحدثها نتيجة هدمه 5 جسور يمكن لتركيا التي تتولى شركاتها غالبية مشاريع البناء والبنية التحتية في اقليم كردستان العراق، إعادة بنائها. ولذلك، لم يكن هناك داع لضغوط أميركية لوقف العملية المتفق عليها. لكن تكتم قيادة الاركان لضمان أمن العملية، أثر سلباً في صداها الإعلامي، فالجيش التركي الذي ارسل 3000 جندي فقط من قواته"لتنظيف"وادي الزاب والقضاء على 300 من عناصر حزب العمال الكردستاني تم التثبت من وجودهم هناك، تجاهل ولم يكذب الأنباء الصحافية التركية التي قالت ان عديد القوات بلغ 10 آلاف جندي وان هدفها الزحف الى جبال قنديل والقضاء على اكبر عدد ممكن من عناصر حزب العمال الكردستاني وقياداته، وهو ما جعل الرأي العالمي يتوقع عملية كبيرة وطويلة نسبياً تشبه سابقاتها التي قام بها الجيش التركي قبل عشر سنوات. لكن الجنرال بيوك انيط كان يدرك ان 3000 من جنوده لا يمكنهم البقاء في تلك المنطقة الثلجية في درجة حرارة وصلت الى 15 تحت الصفر، اكثر من 8 أيام، فاتخذ قرار الانسحاب في اليوم السابق لزيارة غيتس، وأخفاه عن ضيفه الأميركي لأسباب أمنية كما قال. وعندما ابلغ انيط الرئيس بأن العملية انتهت وان الانسحاب سيتم خلال 24 ساعة ? خلال الاجتماع الاسبوعي المعتاد كل خميس بين الرجلين في القصر الجمهوري ? كان غيتس قد استقل طائرته مغادراً، وإن أدرك غل أن هذا التوقيت الذي جاءه به قائد قواته سيحرج تركيا خصوصاً بعد تصريحات مسؤوليها الذين رفضوا اعطاء موعد محدد للانسحاب وهم غافلون عن حقيقة تفاصيل العملية التي احيطت بسرية تامة. لكن الوقت كان قد فات، اذ لم يحسب الجنرال التركي حساباً للديبلوماسية وردود الفعل، ولم يكن باستطاعة الرئيس غل أن يطلب من جنراله ابقاء قواته ليومين آخرين على الاقل في شمال العراق لمنع ردود الفعل التي ستقول إن العملية بترت بناء على ضغوط أميركية بسبب ذلك التوقيت. فسلامة الجنود كانت في الميزان وما كان ممكناً المجازفة بها. ولعل إدراك الجنرال انيط حقيقة ان سريته المفرطة وتكتمه المبالغ فيه وعدم أخذه في الاعتبار الأمور الديبلوماسية، كانت وراء إصداره الأمر وتصريحه علناً بأنه يتحمل وحده من دون الحكومة، مسؤولية نتائج العملية، وقسمه بشرفه العسكري بأن ما حدث كان لدواع عسكرية بحتة وأن العملية استوفت ميعادها ولم تقطع. وهذا سبب التزام الحكومة الصمت بشكل كامل وعدم التعليق سوى عبر تصريحات اردوغان المدافعة عن جنراله واداء قواته البرية. نحو حل سياسي لم يكن الاعلام الدولي وحده من وجه سهامه لتركيا متهماً اياها بالخضوع للضغوط الأميركية، بل ان المعارضة بشقيها العلماني والقومي صبت جام غضبها على قائد الجيش واتهمته بالكذب ولم تصدق روايته، مما أثار أزمة سياسية بعد تبادل المعارضة والجيش الاتهامات بقسوة، اذ اتهمت المعارضة الجيش بالكذب والعمل على الرفع من شأن الانفصاليين الأكراد، فيما وصف قائد الاركان المعارضة بالخيانة. لكن الحقيقة هي أن حزب الشعب الجمهوري العلماني الاتاتوركي، وحزب الحركة القومية، الحليفين التقليديين للجيش في تركيا، هما اكثر من يدرك أن قائد الجيش لم يكذب عليهما، وسبب غضبهما أمر آخر لم يجرؤا الإفصاح عنه علناً. والحقيقة ان كلا الحزبين مستاء من خطة الخامس من تشرين الثاني التي عرضها اردوغان على الرئيس الاميركي والتي قد تتطور لتصل الى حل سياسي للمسألة الكردية يهدد صيغة الدولة القومية في تركيا، وكذلك الى اعتراف بفيديرالية كردية في شمال العراق. وزاد من استياء المعارضة هذا التقارب التكتيكي والموقت ? ربما ? بين الجيش وحكومة العدالة والتنمية والذي نتج منه صمت الجيش ازاء مسألة تحرير الحجاب في الجامعات. واعتقدت المعارضة أن الجيش الذي بدا راضياً عن ما تم التوصل اليه في واشنطن في 5 تشرين الثاني، سيقلب الطاولة على اردوغان وواشنطن في أول فرصة، اي خلال العملية البرية في شمال العراق. وتوقعت المعارضة أن يضرب الجيش بعرض الحائط التحذيرات الأميركية ويطيل بقاءه في شمال العراق ويكثف من تواجده هناك، انتقاماً من الجيش الاميركي الذي وقف متفرجاً على هجمات الانفصاليين الاكراد على الجيش التركي، واحراجاً لاردوغان أمام واشنطن، لكن ذلك لم يحدث، فخيب الجيش آمالهم، وزاد التزامه بخطة الخامس من تشرين الثاني قلقهم تجاه سير تركيا نحو حل سياسي للقضية الكردية قد يكون الدستور الجديد الذي يجري العمل عليه حالياً هو الباب اليه. زيارة طالباني جاءت في خضم هذا المعترك السياسي وضمن إطار المخطط المذكور. ولعل أحد أسباب نجاحها اسلوب الاعداد لها الذي تجاوز القنوات الديبلوماسية الرسمية. وإذا كانت الدعوة قد سلمت على يد مستشار الرئيس للسياسات الخارجية أحمد داوود اوغلو الذي زار بغداد اثناء التوغل البري التركي لشمال العراق، فإن الإعداد لاجندتها وتمهيد أرضية الحوار الصريح والمباشر بين غل وطلباني جاءا ثمرة جهد رجلين، الأول مراد اوزشيليك الذي استلم ملف العراق في الخارجية التركية وحصل على صلاحيات واسعة في هذا الشأن مباشرة من الرئيس، وهو معروف بخطة الاوزالي، نسبة للرئيس الراحل تورغوت اوزال الذي كان من اكثر المتحمسين لعلاقات جيدة مع اكراد العراق وحل القضية الكردية في تركيا، وفي الطرف الآخر ممثل طالباني في أنقرة وساعده الأيمن بهروز غلالي الذي نجح في تجاوز الحساسية التركية تجاه الأكراد وقفز فوق العوائق البيروقراطية لتوصيل الرسائل السياسية بسرعة وسرية وثقة، فالعامل الإنساني والشخصي لعب دوراً كبيراً في الانفراج الحاصل حالياً في العلاقات، وقد يزداد دوره مستقبلاً إيجاباً او سلباً مع دخول شخصيات اخرى على الخط، طالما ان الصفحة الجديدة في العلاقات بين انقرة من طرف وبغداد واربيل من طرف آخر سيكون اساسها بناء آليات تعزيز الثقة وتدعيمها قبل كل شيء.