على رغم انكار بوتين وحكومته، لا شك في أن نتائج الانتخابات التشريعية الروسية الأخيرة في كانون الأول ديسمبر 2007، مزورة. والتزوير الانتخابي بروسيا متعدد الأوجه. فهو لا يقتصر على التلاعب بنتيجة فرز الأصوات، بل يتعدى هذا الضرب من التزوير الى منع المناقشات السياسية في أثناء الحملة الانتخابية، والى كم أفواه المعارضين، وإجراء الانتخابات على قاعدة اللوائح المجمعة والمغلقة ومنع ترشح الأفراد. وفي انتخابات 2007، حظر على اللوائح التي لا تحوز على 7 في المئة من اقتراع الناخبين، التمثيل في مجلس الدوما. ومنذ منتصف التسعينات، تزور عملية الاقتراع بروسيا. فالرئيس السابق، بوريس يلتسن، لجأ الى تزوير نتائج الانتخابات، أو إلى ما يسمى"إدارة عملية الاقتراع"، في 1993 و 1995 و1996. ففي ذلك الوقت، عانت روسيا أزمة اقتصادية قاسية، وكانت شعبية يلتسن متدنية. وتمسكت الطبقة الحاكمة بإعادة انتخاب يلتسن. فهو ضامن احتفاظها بغنائم تخصيص شركات القطاع العام. وفي 2000، مهدت عملية التزوير لانتخاب فلاديمير بوتين المقرب من يلتسن. ولعل أبرز وسائل"إدارة الانتخابات"الحؤول دون تنافس مرشحين جديين الى المقعد. ففي انتخابات 1999 التشريعية، استبعد الكرملين أبرز منافسي بوتين، ورفض طلبي ترشح محافظ موسكو، يوري لوكوف، ورئيس الوزراء السابق، يفغيني بريماكوف، الى السباق الانتخابي. وفي انتخابات 2007، منع حزب النائب المستقل، فلاديمير ريجكوف، وپ"الحزب الوطني البولشيفي"وپ"اتحاد قوى اليمين"من الترشح الى الانتخابات التشريعية. وبحسب الخبراء، ثمة جغرافية انتخابية لتزوير نتائج عملية الاقتراع. ففي عدد من المناطق، وخصوصاً في جمهوريات الاتحاد الروسي، ينتشر التزوير انتشاراً يكاد يكون وبائياً. فعلى سبيل المثال، وبحسب الارقام الرسمية، بلغ معدل مشاركة الشيشان في الانتخابات 99 في المئة، واقترع هؤلاء جميعاً لحزب بوتين"روسيا الواحدة"، على رغم أن منظمات غير محلية أعلنت ان مراكز الاقتراع في الشيشان كانت خاوية من الناخبين. وحاز حزب"روسيا الواحدة"، وحزب"روسيا العادلة"المؤيد لبوتين، على ثلث أصوات المقترعين، في حين امتنع ثلثا الناخبين من المشاركة في الانتخابات أو اقترعوا لحزب آخر. فالانتخابات التشريعية بروسيا هي أبعد ما يكون عن استفتاء شعبي. والفريق الحاكم لم يفز بدعم شعبي واسع، على رغم بذله جهوداً حثيثة للفوز بمثل هذا الدعم. فالسلطات الروسية اعتقلت غاري كاسباروف، بطل الشطرنج المعروف دولياً والناشط السياسي، طوال خمسة أيام، وسرقت مناشير"اتحاد قوى اليمين"، واغتالت الصحافية آنا بوليتكوفسكايا قبل عام من الانتخابات، وأحكمت قبضتها على جمهوريات القوقاز. ويقال إن شعبية فلاديمير بوتين عالية في أوساط الروس. ولكن هل يجوز الكلام على شعبية رئيس في نظام متسلط واستبدادي لا يملك فيه الناخبون حرية اختيار مرشحهم من مجموعة مرشحين؟ ولا ينفي طعني في ما يقال عن شعبية بوتين أن ثمة شريحة كبيرة من الروس تؤيد بوتين والنظام القائم. فبعد أعوام من معاناة الروس أزمة اقتصادية خانقة، تحسنت الأوضاع الاقتصادية بين 2000 و 2002. وبلغ معدل نمو الناتج المحلي نحو 6 في المئة سنوياً. وترى شريحة لا يستهان فيها من الروس أن الفضل في تحسن أداء بلدهم الاقتصادي يعود الى بوتين. والحق أن حكومة بوتين بعثت الاقتصاد الروسي. ففي مطلع 2000، أنجز الرئيس بوتين عملية إصلاح ضريبي ألزمت الشركات الكبرى دفع الضرائب المتوجبة عليها. وجنت الحكومة أرباحاً كبيرة من عائدات النفط، إثر ارتفاع سعر البرميل من 25 دولاراً في 2003، الى 100 دولار في مطلع 2008. فعاد ذلك على الموازنة العامة ببحبوحة يسرت بعث الحياة في القطاع الصناعي، وخصوصاً صناعة الأسلحة، والصناعات الثقيلة، وصناعة الطائرات. وعلى خلاف هذه القطاعات، لم يخرج قطاع الزراعة والقطاع الغذائي، وقطاع الصيدلة، من الكساد. ولكن فئات المجتمع الروسي لم تنعم كلها بثمار الازدهار الاقتصادي. ففي شمال القوقاز، يبلغ متوسط البطالة نحو 60 في المئة. ويستشري الفقر في المناطق الريفية بالجنوب والشمال. ولا يخفى على الروس تجاوزات السلطة في الانتخابات. ففي استطلاع للرأي، قبيل انتخابات كانون الأول ديسمبر 2007، رأى ثلثا الروس أن الانتخابات التشريعية لن تكون نزيهة. ولكن قياس شعبية المعارضة السياسية في أوساط الروس أمر غير يسير. فالسلطة حظرت على الناشطين السياسيين البارزين الظهور على شاشات التلفزة، منذ 2004. وتضطر غالبية الروس الى استقاء معلوماتها من أجهزة الإعلام التي يسيطر عليها الكرملين. ويواجه المعارضون المصاعب في التعبير عن رأيهم، وفي إبلاغ الناس هذا الرأي. فالمعارضة شبه معدومة في البرلمان الروسي منذ 2005. ولا تشارك في لجنة الانتخابات المركزية، وغالبية أعضاء اللجنة هم من حزب"روسيا الواحدة". ولا يشغل المعارضون مراكز رفيعة ورئيسية في الشركات الكبيرة. واضطر عدد من المرشحين المستقلين الى الرئاسة الروسية، مثل غاري كاسباروف وفلاديمير بوكوفسكي وبوريس نيمستوف، الى الانسحاب من السباق الرئاسي بعد إحراجهم. وفي وسع قلة من الروس الاطلاع على المواقع الالكترونية، وقراءة صحف مستقلة مثل"كويرسنت"وپ"نوفايا غازيتا". ولكن الفئة الميسورة هذه جنت منافع اقتصادية منذ تسنم بوتين السلطة. وهي تلتزم اتفاقاً يقضي بامتناعها من المشاركة في الحياة السياسية. ومنذ 2005، فرضت قيود كبيرة على عمل الجمعيات غير الأهلية المحلية والأجنبية. ومنذ نحو عام، بعث النظام إجراءات موروثة من العهد السوفياتي، وأحكم قبضته على مراكز الأبحاث، وشدد القيود على الباحثين الروس. وخسر الباحثون الروس في مركز"كارنيجي"الأميركي، حريتهم، وفرضت الحكومة رقابة على أعمالهم وقيوداً على تنقلاتهم. ويزعم بوتين أن عقد الثمانينات كان أليماً وحافلاً بالكوارث، في حين أن ميخائيل غورباتشيف أرسى في خلاله أسس مؤسسات ديموقراطية، ورفع القيود عن حرية التعبير والتجمع. ولكن الأزمة الاقتصادية حالت دون نجاح مرحلة الديموقراطية الانتقالية. وفي 1996، وضع اعادة انتخاب الرئيس بوريس يلتسن حداً للديموقراطية الناشئة. ففي ولاية يلتسن الثانية، انهارت المؤسسات العامة والعملة الروسية. واستشرى الفساد في المؤسسات، وشاعت عمليات اغتيال رجال الأعمال. ومع بلوغ بوتين سدة السلطة في 1999-2000، أحكم النظام قبضته على روسيا، واستأنف الحرب على الشيشان، وألزم الثريين بوريس برزوفسكي وفلاديمير غوسينسكي على مغادرة روسيا. في 2001، وضع الكرملين يده على القناة التلفزيونية"أن تي في". وفي 2003، ألقي القبض على المليونير ميخائيل خودوركوفسكي، وفي 2004 - 2005، اقر قانون يلغي انتخاب الحكام المحليين. وفي 2006، اغتيلت الصحافية الكبيرة آنا بوليتكوفسكايا، واغتيل ألكسندر ليتفيننكو، ضابط الاستخبارات السوفياتية السابق المعارض لبوتين. عن ماري مندراس،"ليستوار"الفرنسية، 2/2008