لا شأن يشغل الاتحاد الأوروبي هذه الأيام أكثر من استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا وتداعياته المحتملة على مستقبل العلاقات بين روسيا وأوروبا الغربية، لا بل بين غالبية أعضاء الاتحاد المؤيدة لإعلان الاستقلال 21 بلداً والأقلية المتحفظة. ومع استمرار غوص سلوفينيا في قضايا البلقان مذ تسلمت رئاسة الاتحاد مطلع العام الجاري، طغى عليها هاجس تفكيك الغريمة التاريخية صربيا. وبهذه الحركة ابتعد الأوروبيون من الهموم المتوسطية وانشغلوا بقضايا قارتهم، خصوصاً بعدما تخلت الأممالمتحدة عملياً عن ملف كوسوفو على رغم أنها تُدير الإقليم منذ سنة 1999. ولم يتوان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون عن التأكيد خلال زيارته الأخيرة لبراتيسلافا أن هذا الملف يُشكل"قضية أوروبية في الأساس، وبالتالي فالاتحاد الأوروبي هو الذي يتحمل مسؤوليتها". والدافع إلى هذا الموقف هو العراقيل التي تضعها روسيا المتحالفة مع صربيا في طريق اتخاذ مجلس الأمن قراراً واضحاً بتأييد استقلال الإقليم. بهذا المعنى يعتبر الأوروبيون مسار استقلال كوسوفو قضيتهم المركزية في هذه المرحلة قبل الشرق الأوسط والعلاقات مع جوارهم في جنوب المتوسط أو منطقة الخليج. ومن دلائل هذا التعديل في الأولويات أن الأنظار الأوروبية مُتجهة منذ فترة لاستكمال إرسال نحو ألفي شرطي وخبير حقوقي إلى كوسوفو لمواكبة الاستقلال الذي يُرجح أن يُعلنه ألبان الإقليم بين آخر الشهر الجاري وبواكير الشهر المقبل. وسيستمر توجيه أعضاء البعثة إلى البلقان تدريجاً حتى حزيران يونيو المقبل تحت سلطة الجنرال الفرنسي إيف دو كيرمابون القائد السابق لقوات الحلف الأطلسي في كوسوفو. أما العنصر الآخر الذي يُبعد أنظار الأوروبيين من قضايا المنطقة العربية فهو الحماسة التي تُبديها عواصم أوروبية رئيسة لوضع صربيا على سكة الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ما ضاعف من"غرق" رئاسة الاتحاد في بحر من الملفات التي يُشبّه ديبلوماسي أوروبي التعاطي معها بپ"السير على البيض". ويُعزى هذا الحذر إلى حساسية العلاقات مع موسكو وكذلك التحفظات التي يبديها أعضاء في الاتحاد الأوروبي إسبانيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وقبرص تجاه هذه القضايا لكونها تُواجه هي الأخرى حركات انفصالية أو إعلاناً للاستقلال من جانب واحد جمهورية قبرص التركية. دولة بحجم غزة ربما لو كانت ألمانيا أو بريطانيا هي التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لاختلف الوضع قليلاً. لكن سلوفينيا الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن سكان قطاع غزة تقريباً مليونا نسمة فقط والتي لا تملك سفارات في غالبية العواصم العربية، عديمة الخبرة في شؤون المنطقة، وحتى بمسار برشلونة الذي تُشكل البلدان العربية طرفاً أساسياً فيه. وتُعزى هذه الوضعية إلى أن البلد حديث عهد بالاستقلال لم يستقل إلا في سنة 1991 بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي السابق، وتواضع إمكاناته الاقتصادية قياساً الى جيرانه، وخصوصاً إيطاليا والنمسا، وانضمامه المتأخر الى الاتحاد الأوروبي في سنة 2004 ما جعله غير قادر على السيطرة على ملف العلاقات مع الشركاء المتوسطيين. ومن المفارقات أن وزير الخارجية السلوفيني ديميتري روبل أعلن في منتصف ليلة رأس السنة الميلادية في جزيرة مادير البرتغالية أن رئاسة الاتحاد الأوروبي"تنتقل من المحيط الأطلسي البرتغال إلى البحر المتوسط على ساحل سلوفينيا الأدرياتيكي، أي من الغرب نحو الشرق"في وقت يشعر المراقبون في الضفة الجنوبية أن الأمور تسير في اتجاه عكسي وأن الرئاسة انتقلت من المتوسط إلى الأطلسي أو إلى بحر الشمال. ولعل ما يُفسر هذا الانطباع الحيوية التي اتسمت بها الرئاسة البرتغالية التي"اشتغلت"كثيراً على الملفين المتوسطي والأفريقي طوال ستة أشهر، وتوفقت إلى احتضان ثاني قمة أوروبية ? أفريقية، حتى اعتقد من هم غير مطلعين على الجغرافيا أنها بلد متوسطي. ومعلوم أن البرتغال التي ليست لها سواحل على المتوسط عضو مؤسس لمجموعة بلدان الحوض الغربي للمتوسط المعروفة بمجموعة 5 + 5. وهذا ربما من سوء حظ السلوفينيين الذين يعتزمون العمل بجد على ملف العلاقات الأوروبية المتوسطية مثلما أكد لپ"سويس أنفو"مسؤولون في بعثة الاتحاد الأوروبي في تونس. صحيح أن لوبليانا العاصمة السلوفينية تابعت تلك الملفات باهتمام خلال عضويتها للترويكا الأوروبية، التي تجمع عادة الرئاسة السابقة والحالية والمُقبلة لضمان الاستمرارية. وصحيح أيضاً أن فرنسا المُتحفزة لتسلم الرئاسة المقبلة والتي أعدت لها منذ السنة الماضية مشاريع إقليمية موجهة للمنطقة المتوسطية، تساعد السلوفينيين على رغم العوائق اللغوية بين الجانبين في تجاوز الصعوبات. لكن الثابت أيضاً هو أن لوبليانا بعيدة من هموم المنطقة، فعلاقاتها مع العرب ضامرة وكانت تتم من خلال العاصمة الصربية بلغراد على أيام الرئيس الشيوعي الراحل جوزيب بروز تيتو. كما أن وزنيها الاقتصادي والسياسي لا يُتيحان لها اتخاذ مبادرات مُهمة خلال ترؤسها الاتحاد الأوروبي. ولعل هذا ما يُفسر شعور سلوفينيا بأنها تُواجه تحدياً كبيراً بإسناد رئاسة الاتحاد إليها، مثلما أشار إلى ذلك رئيس وزرائها يانيز يانزا في كلمة وجهها الى شعبه بمناسبة تسلمه الرئاسة الأوروبية. البلقان أولوية ركز السلوفينيون على كوسوفو التي هي بالنسبة إليهم، أهم من قضية فلسطين، ومنحوا الأولوية للوضع في البلقان على الوضع في الشرق الأوسط أو العراق، فهم يرون في إعادة تشكيل الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة في كيانات مستقلة قضية في قلب مصالحهم القومية. وفي هذا الإطار هم يستعدون لمعركة كسر عظم مع روسيا، لإزالة العقبات أمام انتزاع كوسوفو استقلالها عن صربيا. ويمكن القول إنهم استخدموا موقعهم في رئاسة الاتحاد الأوروبي لإعطاء دفعة قوية لهذا الملف في مجلس الأمن وفي المحافل الأوروبية والدولية الأخرى، في مواجهة روسيا وصربيا. وهم يأملون على ما قال وزير خارجيتهم روبل أخيراً في بروكسيل، بأن يُستكمل مسار استقلال كوسوفو الذي يديره الأوروبيون قبل نهاية فترة رئاستهم الدورية في حزيران يونيو المقبل. أما على صعيد الاستراتيجيا العامة، فسلوفينيا أميل إلى الرؤية الألمانية التي تُقلل من الاهتمام بتطوير الشراكة مع بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، وتمنح الأولوية المطلقة لإدماج الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي. ولن يُفيد التحفظ الإسباني والتردد الفرنسي - الإيطالي في تعطيل الآلة الأوروبية الضخمة، ما يعني أن هذا التجاذب سينعكس خسارة للشركاء المتوسطيين وفي مُقدمهم العرب. ويُلاحظ الخبراء في هذا الصدد كما لو أن هناك نوعاً من الترابط بين الموقع الجغرافي للبلد وأولوياته الخارجية، فالاهتمام بالقضايا المتوسطية مثلاً يخفت كلما ابتعدنا من ضفاف المتوسط. شكوك مع ذلك يثير تعثر مسار برشلونة الاورومتوسطي، الذي بات يُسمى"سياسة الجوار الأوروبية"، شكوكاً في قدرة أوروبا على طرح بدائل ومشاريع جديدة قابلة للتحقيق، سواء في ظل الرئاسة السلوفينية أو حتى الفرنسية التي ستليها، بالنظر الى العوائق الهيكلية التي وُلدت مع الشراكة نفسها. وفي هذا الإطار يعقد باحثون مقارنات مع اتفاقات التبادل الحر التي توصلت إليها بلدان عربية مع أميركا الشمالية، والتي تبدو على المستوى السياسي أكثر شمولاً وطموحاً وتقدماً من سيرورة برشلونة. وفي الوضع الراهن للمسار الأورومتوسطي وجدت الرئاسة السلوفينية نفسها أمام مُنجزات مؤسساتية تم اجتراحُها عبر عشر سنين من الاجتماعات في مستويات عدة، ما أوجد منظومة مؤسساتية بيروقراطية، وكرس وتيرة معينة لحياة هذا الفضاء الأورومتوسطي، مثل لجان"يوروميد"والأجندات المتفرعة عنها، إن كانت ثنائية أو متعددة الأطراف، لكن الأمل بقطف ثمار أكبر بالنسبة الى العرب ضئيل بالنظر الى الوزن المتزايد لغرمائهم الأوروبيين الشرقيين، الذين يُعاملهم الاتحاد كما لو أنهم أطفاله المدللون. بهذا المعنى لا ينبغي للعرب أن يبقوا متفرجين بانتظار تقلبات رياح السياسة الأوروبية مع تعاقب الرئاسات، فما لم يوحدوا مواقفهم وما لم يطرحوا مشاريع للتعاون بين ضفتي المتوسط في مجالات حيوية لأوروبا، لا يمكن أن يكون لهم مركز محترم في لائحة الأولويات الأوروبية. كما أن الضفة الشمالية للمتوسط لا يمكنها ان تعيش هانئة إذا لم تنعم الضفة الجنوبية بالرخاء والاستقرار، وهو ما يعني أن المصالح متداخلة بين الجانبين، وأن العرب مُقصرون في استخدام الأوراق التي بين أيديهم، كي يكون لهم وزن أكبر في الخيارات الأوروبية. * صحافي من أسرة"الحياة"