لا شك في أن القوانين الضريبية المتوقع تنفيذها في نيسان أبريل المقبل ستؤدي إلى هروب المستثمرين والمواهب ورجال الأعمال النافذين من الممكلة المتحدة. وأكد وزير الاستثمار البريطاني ديغبي جونز أن هذه التشريعات ستهدد موقع لندن كمركز مالي عالمي. سيكون للتعديلات الجديدة في القوانين الضريبية انعكاسات سلبية على الشرق أوسطيين المقيمين في لندن. إلا أن هذه القوانين قد تخدم مصالح دول تربطها معاهدات ضريبية بالمملكة المتحدة، اذ ستصبح وجهة محتملة لرجال الأعمال ورؤوس الأموال والاستثمارات المنوي إخضاعها للضرائب. تشهد المملكة المتحدة قريباً تحولاً في قوانينها الضريبية. ويصعب في الحقيقة فهم السبب الذي دفع الحكومة إلى سدّ الطريق أمام الاستثمارات. فالتعديلات التي ستدخل في التنفيذ في السادس من نيسان أبريل 2008 تقود العديد من المقيمين في المملكة وبخاصة في لندن إلى مغادرة البلاد، وتحض الكثيرين ممن فكر يوماً في الإقامة إلى الالتفات نحو دول أخرى. وبالفعل، يميل أصحاب رؤوس الأموال الدولية أو المستثمرون إلى التوجه نحو بلدان تتميز بمعدلات ضريبية منخفضة واستقرار، توفر لهم بيئة عمل ودية. وقد نعمت المملكة المتحدة بهذه المزايا في الماضي، ما جعل من لندن أحد أهم مراكز المال في العالم، إن لم نقل أهمها على الإطلاق، وحض عدداً كبيراً من المصرفيين والمحاسبين والوسطاء من أنحاء العالم على اختيارها مقراًَ لإقامتهم. أما الأشخاص من الشرق الأوسط، الذين كانوا يبحثون عن بيئة آمنة وسليمة للاستقرار فيها، فانتقلوا إليها للأسباب ذاتها. اليوم لكن هذا الواقع لن يبقى على حاله في الأشهر المقبلة، يمكن لأي شخص ينوي العيش في المملكة المتحدة الاستفادة من ترتيبات ضريبية تخوله تسديد الضرائب على المداخيل والأرباح الرأسمالية فقط التي يسجلها فيها. وبالتالي يمكن الأجانب، بفضل تخطيط دقيق وحذر، الإقامة في المملكة وتسديد الضرائب على المداخيل المحلية فقط، والاستفادة في الوقت ذاته من إعفاءات ضريبية على مكاسب وأرباح مسجلة في الخارج. وابتداء من السادس من نيسان أبريل 2008، يتوجب على كل شخص أجنبي يقيم في المملكة المتحدة منذ سبع سنوات بدلاً من السنوات التسع الماضية، ويندرج في فئة"غير المقيمين"صفة معطاة للأشخاص الذين ينوون العودة إلى بلدهم الأم، أياً يكن هذا البلد، في فترة لاحقة من حياتهم ويخضع لضريبة الإقامة، تسديد 30 ألف جينيه استرليني سنوياً ليستفيد من إعفاء ضريبي على المداخيل والأرباح الرأسمالية المسجلة خارج المملكة. ولو كان هذا التعديل هو الوحيد الذي سيدخل على القوانين الضريبية، لما كان موقع لندن كأبرز المراكز المالية في العالم وبنيتها التحتية نفسها مهددين. لكن في الواقع، ثمة تعديل آخر لم يسلط الضوء عليه بما فيه الكفاية، وهو ينص على أن كل المقيمين في المملكة الذين يدخلون إلى البلاد رؤوس أموال من الخارج بعد السادس من نيسان أبريل، سيضطرون إلى تسديد ضرائب على هذه الأموال بنسبة تبلغ 40 في المئة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأحكام لا تنطبق فقط على الأثرياء جداً. لنأخذ مثلاً طبيباً انتقل الى المتحدة لأسباب مهنية واستأجر شقة للسكن فيها. لكن بعد مرور سنة، قرر إحضار عائلته إلى المملكة واقتناء منزل. فقام بتحويل الأموال اللازمة من بلده الأم إلى لندن لشراء العقار. فبدلاً من أن تعتبر السلطات الضريبية في الممكلة هذا المبلغ كرأس مال، ثمة احتمال كبير أن يُجبر الطبيب، بموجب القوانين الجديدة التي صيغت بخطوط عريضة على تسديد ضريبة على الأموال التي أدخلها ما يجعل من عملية اقتناء منزل للسكن التي هي في الأصل مكلفة للغاية في بريطانيا خطوة بالغة الصعوبة، إن لم نقل مستحيلة. كذلك، تفرض القوانين الضريبية الجديدة على المقيمين، الذين يرغبون في إدخال أصول معينة إلى المملكة، تسديد ضريبة تساوي 40 في المئة من قيمة هذه الأصول. وبالفعل، قد يُجبر شخص أراد إدخال سيارة أو لوحة أو قطعة أثاث أو مجوهرات، على تسديد ضريبة لقاء نقل هذه الأصول من بلد إلى آخر، وهو أمر أثار مخاوف المتاحف وصالات العرض الفنية. وبحكم القوانين الجديدة، لن يتمكن الخاضعون لضريبة الإقامة من إدخال مجموعاتهم الفنية الموجودة في الخارج إلى المملكة المتحدة لتأجيرها إلى المعارض إلا في حال أراد هؤلاء الأشخاص تسديد ضريبة على قيمة هذه اللوحات. وبدأ هذا الواقع ينعكس سلباً على صالات"سوثوبيز"و"كريستيز"للمزاد العلني، إذ بات الناس يتجهون إلى صالات مماثلة في جنيف وباريس ونيويورك لطرح لوحاتهم ومجوهراتهم في المزاد العلني، تفادياً للضرائب المفروضة في لندن. وينبغي التوضيح أن التعديلات الأوسع نطاقاً تطال الأشخاص الذين يملكون أموالاً مودعة في صناديق خاصة خارج أراضي المملكة. وبالفعل، يلجأ الأثرياء إلى هذه الصناديق لإيداع أصول يملكونها، لمصلحتهم ومصلحة عائلاتهم، في مناطق حيث معدلات الضريبة منخفضة كجيرسي وغيرنسي والجزر العذراء البريطانية، علماً أنه يمكن تكييف هذه الصناديق لتتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. لكن ابتداءً من السادس من نيسان أبريل، سيضطر أصحاب هذه الصناديق إلى تسديد ضريبة على الأرباح المسجلة، ولو تم توزيعها على أفراد غير مقيمين في المملكة. والمؤسف أن معظم المحامين والمحاسبين ينصحون موكليهم اليوم بمغادرة البلاد نتيجةً لهذه التشريعات الجديدة. ولا يعني ذلك وجوب مغادرتها نهائياً، لكنهم لن يتمكنوا من البقاء فيها إلا فترات محدودة في السنة. وبموجب القوانين الضريبية الجديدة، سينبغي على أي شخص يريد تفادي تسديد ضريبة الإقامة والخضوع لأحكام النظام الضريبي البريطاني تمضية أقل من تسعين يوماً سنوياً في المملكة. وتم اعتماد طريقة جديدة لاحتساب متوسط فترة الإقامة بإدخال يومي الوصول والمغادرة في العملية الحسابية. غير أن معاهدات منع الازدواج الضريبي التي وقعتها بريطانيا مع دول أخرى ترمي هذه المعاهدات إلى ضمان عدم خضوع الدخل نفسه للضريبة في مكانين مختلفين قد توفر نوعاً من الارتياح للمكلفين. وعلى سبيل المثال، يمكن للخاضعين لضريبة الإقامة في عمان، بموجب معاهدة منع الازدواج الضريبي الموقعة بين المملكة المتحدةوالأردن، تمضية أكثر من تسعين يوماً في المملكة، من دون أن يندرجوا في فئة الخاضعين لضريبة الإقامة في لندن، ما يخولهم تجنب كل المشاكل المذكورة أعلاه. وينبغي على هؤلاء الأشخاص أن يحرصوا على ألا تتخطى فترة إقامتهم في المملكة مئة واثنين وثمانين يوماً في السنة الواحدة الممتدة من السادس من نيسان أبريل من أي سنة إلى الخامس من الشهر عينه في السنة المقبلة. لكن من المهم جداً أيضاً مراجعة القوانين الأردنية ذات الصلة قبل اتخاذ قرار في هذا الاتجاه. وتوضيحاً لما سبق، يمكن لأي رجل أعمال مضى على إقامته في لندن عشرة أعوام مثلاً، أن يقرر اتخاذ عمان مكاناً لإقامته في المستقبل. وإذا توافرت دلائل تثبت أنه قلص روابطه بالمملكة المتحدة وباع منزله فيها حتى ولو كان يستخدم منزله، يمكن أن يكون هذا المسكن مملوكاً بوساطة شركة خارجية واقتنى منزلاً في الأردن وله نشاط تجاري أو اجتماعي هناك، وإذا توضّح أن اهتماماته باتت تتركز في عمان، فسيكون في استطاعته تمضية أكثر من مئة واثنين وثمانين يوماً في المملكة المتحدة من دون الخضوع لضريبة الإقامة. وبالفعل، يشكل هذا الإمكان خياراً محفزاً كونه يخول الأفراد تجنب الخضوع لضريبة الإقامة وبالتالي تفادي انعكاسات القوانين الضريبية الجديدة. ومن النتائج السلبية لهذه التشريعات الجديدة، التأثير السلبي في العائلات. ففي العديد من الحالات، أُجبرت العائلات الثرية على إعادة النظر في بقائها في المملكة وخضوعها لضريبة الإقامة. وما يحصل اليوم أن المحامين ينصحون موكليهم بترتيب إقامتهم بطريقة تتيح إدراج الزوج الذي يملك أصولاً ودخلاً في المملكة في فئة"غير المقيمين"لغايات ضريبية، وإدخال الزوجة التي ليس لديها أي دخل أو أصول إلى فئة المقيمين، لتتمكن من البقاء في المملكة مع أولادها أثناء إتمامهم تحصيلهم الدراسي. ومؤسف للغاية أن الحكومة البريطانية تبدو كأنها لم تبحث في النتائج التي ستنجم عن التعديلات المرتبطة بالقوانين الضريبية. وأجبرت القوانين الضريبية الجديدة أيضاً المؤسسات المالية على اتخاذ قرار تخفيض طاقم عملها في لندن. وبالتالي، تتم إحالة العديد من رجال الأعمال الأميركيين إلى جنيف، ونقلت مصارف عملياتها المرتبطة بصناديق التحوّط إلى زوريخ في سويسرا وتعمد بعضها نقل موظفيه إلى الكاريبي. وفي مقابلة مع صحيفة"فاينانشل تايمز"، صرح وزير الاستثمار البريطاني ديغبي جونز الذي ترأس"اتحاد الصناعات البريطانية"ويتمتع بخبرة في مجال الأعمال وتدفق رؤوس الأموال، ان التعديلات الجديدة في القوانين الضريبية ستصعّب مهمة جذب الاستثمارات الأجنبية إلى المملكة المتحدة. وإثر هذا التصريح، تلقى وزير الاستثمار انتقادات من قادة الاتحادات البريطانية الذين لم يدركوا أن الاقتصاد البريطاني سيتلقى صفعة قاسية نتيجةً لمغادرة رجال الأعمال المملكة مع ما يتمتعون به من رؤوس أموال ونفوذ ومعارف قد تعود بفائدة كبيرة على المملكة. وتناولت صحيفة" فاينانشل تايمز"في مقال لها الأسبوع الماضي إخفاق منظمي"أسبوع الموضة في لندن"London Fashion Week في جذب الزبائن من أقطاب العالم، كما كانوا يفعلون في الماضي. إلى ذلك، يخضع سوق العقارات في المملكة إلى ضغوط كبيرة اليوم، ومن المجمع عليه دولياً أن الاقتصاد البريطاني يحتاج، شأن العديد من الاقتصادات، إلى أساليب دعم، لا إحباط. والجانب الغريب لهذا الواقع هو أن الحكومة البريطانية تدفع المستثمرين ورؤوس الأموال الذين قد يعودون عليها بالفائدة إلى الخارج. لقد تمنت الحكومة أن تؤدي التعديلات الجديدة في القوانين الضريبية إلى زيادة إجمالي الواردات الضريبية. لكن يوجد احتمال ضئيل أن تنتج التعديلات زيادة مرجوة، لا بل قد تؤدي على الأرجح إلى النتيجة العكسية. وفضلاً عن ذلك، سيتسلط مزيد من الضغوط على البنية التحتية للبلاد نتيجةً للصعوبات التي ستواجهها المملكة في استقطاب موظفين أجانب. لذا، يبدو السادس من نيسان أبريل 2008 يوماً مظلماً في تاريخ لندن. إلا أن هذا التاريخ سيشكل نقطة انطلاق مشرقة بالنسبة إلى دول أخرى كالأردن التي ستجذب إلى أراضيها جميع المستثمرين المغادرين من المملكة المتحدة بفضل مزايا معاهدات منع الازدواج الضريبي. ويتوجب على كل الأشخاص الذين قد يخضعون لضريبة الإقامة والذين يملكون أو قد يملكون أصولاً في الخارج التفكير ملياً في هذه التعديلات لتحديد مدى جدوى بقائهم في المملكة أو مغادرتها. إنه من المعيب للغاية أن تأتي هذه النصيحة على لسان محام بريطاني. لكن دعونا لا ننسى أن ثمة وزيراً في الحكومة لمّح إلى الفكرة ذاتها. * ديفيد فريمان محام بريطاني يعمل في مكتب"توماس إيغار"للمحاماة ش.م.م. في لندن. يمكن مراسلته على البريد الإلكتروني التالي: [email protected].