في تتابع لافت، تستمر الوفود التركيَّة في زياراتها غير العادية لواشنطن. رئيس الحكومة أردوغان، فرئيس الجمهوريَّة عبد الله غُل، فقائد هيئة الأركان العامَّة الجنرال ياشار بيوكآنط، ومن ثَّم نائبه الجنرال أرغين صايغون. وهذا الأخير، كان قد رافق أردوغان في زيارته السالفة الذكر لأميركا، وقبل فترة، كان في بغداد، تزامناً مع زيارة كوندوليزا رايس للعاصمة العراقيَّة!. وليس سرَّاً، أنه ثمَّة ملفَّاتٍ ثلاثٍ، تغطى على جدول أعمال أيَّة زيارة تركيَّة لواشنطن، هي: العمال الكردستاني، وكركوك، ومستقبل الفيدرالية في العراق، فضلاً عن ملفَّات أخرى، تلي في أهميتَّها، ما أشرنا له، كالملفِّ الأرمني، والملفِّ القبرصي، ومساعي انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. في ما يتعلَّق بملفِّ الكردستاني، فبعد مضي ما يقارب الخمس سنوات من الاحتلال الأميركي للعراق، والممانعة الأميركيَّة لأيّ اجتياح تركي لكردستان العراق، استطاعت أنقرة أن تستحصل على ضوء أخضر من واشنطن للبدء في شنِّ جولة من الحرب القديمة - الجديدة على حزب العمال الكردستاني. وقد باشرت تركيا هذه الجولة بالهجوم الجوي ل52 طائرة"إف 16"على ما قيل: إنها معاقل الكردستاني على الحدود التركيَّة - العراقيَّة يوم 16/12/2007، بالتزامن مع قصف مدفعي تركي - إيراني مركّز لتلك المناطق. وفي ما يخصُّ بالمادة 140، وقضية تطبيع الأوضاع في كركوك، فقد نجحت تهديدات الأتراك، في جرّ الحكومة المركزيَّة في بغداد للالتفاف على الإقليم الكردي، وعقد اتفاقات وتفاهمات سريَّة بين بغدادوأنقرة، وبرعاية أميرك يَّة، حول تأجيل المادة 140 لستة أشهر. وكشف الرئيس التركي عبد الله غُل، في زيارته الأخيرة لواشنطن، لمراسل صحفية"حرييت"التركيَّة، أنه شكر بوش بخصوص تأجيل المادة 140، وإنه"سيطالبه بتعليقها"، وصولاً لشطبها من الدستور العراقي، أو تجمديها. بمعنى، نجح المالكي في ليّ ذراع أكراد العراق، وبشكل قوي ومؤلم، عبر أنقرة. وبوضع الحكومة العراقيَّة ملف كركوك في العهدة الأمميَّة، و"تمديد"تطبيقها 6 أشهر، تكون قد خلَّصت نفسها من ضغوطات التحالف الكردستاني الذي كان يهدد الحكومة المركزيَّة، بالانسحاب من العمليَّة السياسيَّة، أنْ لم تطبَّق المادة 140 في وقتها. وإن أبدى الأكراد أيّ اعتراض على أداء الأمم المتَّحدة بخصوصها، حينئذ، سيظهر الجانب الكردي وكأنه ضدَّ الشرعيَّة الدوليَّة، أو ما شابه، فيما يكون المالكي قد أبرأ ذمَّته أمام كل حلفائه الإقليميين، المعترضين على المادة 140، تركيا وإيران وسورية، وخنادقهم المتقدِّمة والنشطة في العمليَّة السياسيَّة العراقيَّة جبهة التوافق السنِّيَّة، الائتلاف الشيعي، الجبهة التركمانيَّة، التيار الصدري. وتالياً، لم يعِ قادة أكراد العراق، أن القصف الذي طال مقاتلي الكردستاني في المنطقة الحدوديَّة، كان موجَّهاً للمادة 140 من الدستور العراقي، وقد أصابها في مقتل!. ويبدو أن قادة أكراد العراق أدركوا متأخِّرين التفاف المالكي عليهم، تماماً كما فعل إبراهيم الجعفري معهم، فاتَّجهوا لمراجعة تحالفاتهم، وعقدوا اتفاقاً هذه المرَّة مع السنَّة،"الحزب الإسلامي". أمَّا ما خصَّ الملف الأرمني، وقانون إدانة المذابح الأرمنية 915-1917، واعتبارها إبادة جماعيَّة، والمعروض على الكونغرس للتصويت، بعد أن أقرَّته لجنة العلاقات الخارجية فيه، يبدو أن هذا القانون، أعيد على الرَّفّ، بعد أن أثار لغطاً وردود أفعال وتهديدات تركيَّة قويَّة لأميركا، حيث اعتبره الرئيس التركي غُل:"إهانة للشعب التركي". واتضح أن هذا القانون، لم يخرج من كونه ورقة ابتزاز أميركيَّة للأتراك. رغم كل التطبيل والتضخيم الذي أبداه الساسة والعسكر والإعلام التركي، حيال نتائج الهجوم الجوِّي التركي على معاقل الكردستاني في جبال قنديل، لكن، ظهر جليَّاً، زيف وهشاشة تلك الادعاءات. لكن، اللافت في الأمر، ما ذكرته صحيفة"آزاديا ولات"الكرديَّة، الصادرة في ديار بكر، ونقلاً عن الموقع الالكتروني للبحوث والدراسات الاستراتيجية في كردستان، إن جنرالاً إيرانيَّاً صَّرح للموقع المذكور بأن الطيران الأميركي شارك في الهجوم التركي على مقار الكردستاني، و"ان أنقرة طلبت من طهران، قبل بدء العملية ب48 ساعة، ضرورة استخدام مجالها الجويِّ في هجومها على معاقل الكردستاني، فوافقت طهران، بموجب التنسيق المشترك بين البلدين لمحاربة الكردستاني على جانبي الحدود، بشرط ألاَّ تكون الطائرات الأميركيَّة ضمن سرب الطائرات التركيَّة المهاجمة. لكن، فيما بعد كشفت راداتنا أن الطائرات التي كانت تقصف مواقع الكردستاني، لم تكن فقط تقلع من مطاري ديار بكر وأنطاليا العسكريين التركيين، بل من قاعدة إنجيرليك الأميركيَّة أيضاً". وهذا ما يفسر نفي هيئة الأركان التركيَّة بشدَّة أن يكون الهجوم"التركي"، قد أصاب أهدافاً مدنيَّة، وقتل قرويين كرديين، وهدَّم بيوتاً ومدراس ومرافق مدنيَّة، ذاكرة في تصريحات لها:"إن الأهداف التي تمَّ قصفها، كانت منتقاة بعناية، وبعد رصد وكشف استخبارتي أميركي دقيق". وهذا ما يفسِّر أيضاً بقاء ردود الفعل العراقيَّة والكرديَّة تحت سقف التنديد والشجب والاستنكار، ولم تصل لقطع العلاقات أو طرد السفير التركي، أو إغلاق الممثليات التركيَّة، أو تجميد الاتفاقات الاقتصاديَّة، أو تقديم شكوى للأمم المتَّحدة ومجلس الأمن...، كأي إجراء ينبغي أن تتخذه دولة ذات سيادة، لمواجهة عدوان دولة أخرى على أراضيها وسيادتها وشعبها!. وما استمرار الحصار الإعلامي الذي فرضته حكومة إقليم كردستان العراق على مناطق جبال قنديل، تنفيذاًَ لمطلب تركي - أميركي، ومحاولة أكثر من 50 صحافيا ومثقفا كرديا عراقيا كسر هذا الحصار، ومحاولة السير نحو تلك المناطق، وصدّ السلطات الكردية لتلك المجموعة، ومنعها بالقوَّة، تتوارد أخبار مفادها: إن القصف الذي طال تلك المناطق، ربما يكون قد استخدم فيه أسلحة محرَّمة، كيماويَّة أو بيولوجيَّة، بسبب الارتفاع المفاجئ في عدد المصابين بأمراض غريبة هناك. وهذا ما ألمح له وزير البيئة في الإقليم الكردي دارا محمد أمين، وطلب إرسال لجنة تكشف عن حقائق ما حدث هناك. وما بات في حكم المؤكَّد إن تركيا تهيِّئ نفسها لغزو برِّيّ لكردستان العراق في الربيع المقبل، ووجود نائب هيئة الأركان التركيَّة أرغين صايغون في واشنطن ثم بغداد ثم واشنطن، ليس إلا لوضع اللمسات الأخيرة على مخطط الهجوم البرِّيّ التركي على جبال قنديل. ومن جانبه، لم يستبعد العمال الكردستاني هذا الهجوم، وكشف عن دخول إسرائيل على خطِّ المواجهة الأميركيَّة - التركيَّة - الإيرانيَّة معه. وذكر الحزب في بيان له:"إن وحدات خاصَّة من نخبة الجيش الإسرائيلي وصلت لتركيا". وإنهم"رصدوا تحركات لعناصر الموساد في محافظة باطمان الكرديَّة"، جنوب شرق تركيا. وحذر الكردستاني في بيانه، إسرائيل وأميركا من تبعات مشاركتهما في أيّ مخطط يستهدفهم، ذاكراً"أن الشعب الكردي، سيعتبره قرار إعلان حرب، ولن يقف مكتوب الأيدي، ولديه الوسائل الكافية للدفاع عن نفسه". ما يعني أن تركيا قد ضبطت مواعيدها مع ربيعٍ لاهب، سيثمرُ مزيداً من القتل والخراب وإراقة الدماء، بمعيَّة تعاضد الإسلامي والذهنية الطورانيَّة، المتمثِّلة بمؤسَّسة العسكر، على إتِّباع الخيار العسكري الفاشل في طيّ الملفِّ الكردي. رويداً، باتت تتضح المعالم المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة للمخطط الذي يستهدف العمال الكردستاني، وعملية توزيع الأدوار على الشريك العربي والكردي العراقيين، والفارسي والإسرائيلي والأميركي، ومن خلف كل هؤلاء، التركي في هذا المخطط!. هذا الإجماع والتكالب والتواطؤ المريب والمعيب في آن، الذي لم نشهد مثيلاً على أيَّة دولة أو فريق سياسي، يوحي فيما يوحي، إلى الثقل الذي لا زال يتمتَّع به الكردستاني، حتى بعد اعتقال زعيمه أوجلان. والسؤال: ألهذه الدرجة يشكّل العمال الكردستاني خطراً على مصالح المشتركين في مخطط تصفيته، من أعداء وأصدقاء؟!. قصارى القول: اتهام أميركا وإسرائيل وإيران وتركيا، وكل هذه الدول التي تمارس إرهاب دولة، للكردستاني بالإرهاب، لن يفهمه الأكراد إلا أنه شهادة تؤكد عكس ذلك. وما قد يحزُّ في النفس الكرديَّة أكثر، هو اشتراك طابور سياسي وثقافي كردي خامس في طعن العمال الكردستاني من الخلف، أو تبرير مساعي تصفيته بشكل أو آخر. * كاتب كردي