كعادته في الدفع باللغة نحو بنىً تصويرية مشهدية ورشاقة شاعرية رمزية ناضحة بدلالاتها وإسقاطاتها السياسية والفكرية، يكتب الروائي السوري محمد أبو معتوق حكاية الپ"ثلاث تفاحات"دار نون، حلب، 2008، ليعيدنا إلى زمن الخطيئة والشجرة المحرّمة التي سببت كلّ هذه المآسي الموروثة للمرأة. هكذا فإن الروائيّ، ومن خلال حكاياته المتناثرة، يستعرض الكثير من حالات العقاب الذكوري للمرأة بتقنية بنائية شهرزادية ترتكز الى الحكاية الإطارية، حيث تنفتح الحكاية على حكايات إضافية، ترتبط جميعاً بمحور واحد، يدور حول معاناة المرأة وأشكال اضطهادها على يد الذكور سواء كانوا أخوة، أو أزواجاً يعانون بدورهم سطوة التقاليد الاجتماعية، ويعيشون حالاً من الحرمان العاطفي والجسدي والإنساني، وبالتالي فإن الحياة في هذه المدينة التي ستستحيل إلى ما يشبه السجن الكبير، الناس فيه أحرار ومأسورون، وكلّ معاقب بجريمة لم يرتكبها، وبالتالي فإن سجن النساء الذي تدور الأحداث فيه أصبح أكثر رحمة وإنسانية من سجن القيم والمعتقدات الاجتماعية المتخلّفة. وما بين المكانين الضاغطين تدور أحداث الرواية، فنتابع الساردة في استهلالها الأوّلي وهي تحكي عن امرأة زرقاء تعمل سجّانة في سجن النساء، لكنّ هذه الزرقة لم تأتها من عامل وراثيّ، وإنما اكتسبتها من تحوّل انتابها بُعيد غياب زوجها عنها، فعادت إلى عملها في سجن النساء زرقاء، شأنها في ذلك شأن النسوة السجينات اللاتي أُصبن بالذبول نتيجة ابتعادهنّ عن أطفالهنّ ورجالهنّ. هكذا فإنّ الحكاية سوف تعزز حضورها في هذا الحيز العقابي، ليتابع القارئ الكثير مما تقدّمه تلك النسوة من حكايات مفعمة بالأسى عن علاقتهنّ القهرية بالذكور الجهلة، ومن رقص وأداء مسرحيّ وطقسيّ اقتضته طبيعة الحضور الأنثوي في حيّز لا وجود للرجال فيه. وقد يظنّ القارئ للوهلة الأولى أن هذه الرواية تنتمي إلى زمن قديم، إلى زمن لم تذهب فيه المرأة للتعلّم والعمل في وظيفة إدارية أو في معمل، ولم تصبح طبيبة أو محامية أو إعلامية بعد، لكنه، مع الأسف، سيفاجأ أنها تنتمي الى عصر التكنولوجيا الرقمية الحديثة، وفي المدينة التي تعتز بأنها موطن حضاريّ لألوف من سنين خلت، ومدينة التعايش الأمثل بين الطوائف والاثنيات المختلفة"مدينة الكتّاب والشعراء والموسيقيين وكتّاب الموسوعات الضخمة، وهي تغضّ طرفاً عما يجري بين حواريها وخلف جدرانها من عسف واضطهاد للمرأة كأم وأخت وزوجة، نتيجة للثقافة الذكورية المهيمنة على مفاتيح التجارة والاقتصاد والمهن العلمية والتنظيمات السياسية الرافعة شعارات التحرر. وشهرزاد الراوية سوف تحكي لشهريارها الكثير من الحكايات مما يدعو للعجب والاستغراب من إمكان استمرار الأزمنة القديمة بتقاليدها البالية وقيمها القاسية في حياة مدينة متحضّرة، حيث واظب مفهوم الشرف وغسل العار بالقتل، مستوطناً بعض الأوساط الاجتماعية. وعلى المرأة التي رافقتها الخطيئة منذ ولادتها أن تحرص على نفسها وشرفها من الذكور الذين يستبيحون شرفها من جهة، ثمّ يطالبون بقتلها غسلاً للعار. فالحبّ ممنوع والاختلاط ممنوع وكذلك الهواء الحامل روائح الأحبة. عليها أن تحاذر من كلّ شيء، فلا تستسلم إلاّ للزوج الذي سيدعم باب بيتها بمزيد من الأقفال، ويراقب الطرق التي ستمشي عليها. وعندما تخلو على هذا النحو أو ذاك سيسارع لاصطحابها إلى بيت أهلها، كي ترى أمّها وأخواتها، إذ إن كلّ شيء ممكن في عقل مجانين الغيرة هؤلاء، أو على تعبير أحدهم:"إنها الزوجة كالجوهرة الثمينة التي يحافظ عليها الجواهريّ في صناديق مغلقة". ولكن العنف القاسي سيمارسه على هذه الجوهرة الزوج المشوّه جسدياًَ ونفسياً، وكأنه في ضربها وسحقها يريد إثبات رجولته وسلطته. وتكتمل المصيبة عندما تلجأ هاربة الى أخيها الذي يدير موقعاً إلكترونياً يدعو من خلاله الى تحرير المرأة، فيزيد من مأساتها بأن يحوّلها وزوجته إلى خادمة، ثمّ يتواطأ مع زوجها على أن يعيدها إلى عصمته. وبالتالي فإن السجن بالنسبة لهؤلاء النسوة يصبح أرحم وأرحب من كلّ المدينة، نظراً الى عدم وجود الرجال والحجارة التي يرجمونها بها، إذا لم تمتثل لشهواتهم، وإن امتثلت لها أيضاً. وعلى رغم كلّ ذلك تحافظ النساء على ما تبقى من أنوثتهنّ فيصدقّن حكايات الحبّ، ويستسلمن بإرادتهنّ لإغواء الذكور، وفي السجن يحلمن بهم ويقمن علاقات مع الضباط المناوبين، كي يحافظن على أرواحهنّ من الذبول. وباختصار إنها حكايات جمّة عن الأشواق والحرمان، والرغبة الكامنة في الذات الإنسانية يكشفها الروائيّ بمزيد من التشويق الموظّف في أنساق حكائية متعددة، حتّى لحظة دخول صاحبة"التفاحات الثلاث"السجن وهي حامل سفاحاً من جارها الذي هرب إلى بلاد أخرى تاركاً إياها لمصيرها بين أيدي أخوة عتاة، لتأتي سيرة التفاح ويستعير طقسيات الماء من الميثولوجيا والفراديس المفتقدة، ويوظّف كلّ ذلك في قالب سرديّ جميل، تكمن الروح الشهرزادية المتعاطفة مع بنات جنسها في كل تفاصيله، فتبدع لغة سردية يمكن وصفها بالسهل الممتنع، اللغة الإيحائية العالية الدلالة، والمشهديات"المؤفلمة"الفائقة الجودة. وبذلك يتحوّل السجن مسرحاً كبيراً، وثمة أمّ كبيرة تعمل على متابعة الأداء التمثيلي للسجينات اللاتي خلت حياتهنّ من العنف، فعمدن إلى استعادته عبر التمثيل، فينقسمن إلى فريقين ويبدآن معركة طاحنة يتخللها الصفع وشدّ الشعر والولولة. وعندما يصيبهنّ الإعياء"يقعن إلى جوار الجدران، ويتأملن بعضهنّ بحنق، ثمّ تنتابهنّ عاصفة من الضحك، وبعد ذلك ينهضن للعناق والغفران...". ولا تتوقف المشاهد الممسرحة أو"المؤفلمة"عند هذا الحدّ، فاللغة تسعى دائماً الى إثارة قارئها بما تنطوي عليه من شعرية أو أداء أو تمثيل. إلاّ ان مشهد المرأة الحامل في السجن سيكون أكثرها اتقاناً وأغزرها عاطفة وإنسانية، وستعمل السجينات على أدائه إيمائياً، بحيث تمتدّ الأيدي نحو بطن الحامل، فتمنع الأم السجينة الأيدي الملوثة بالدم من الاقتراب منها. ثمّ يبدأن الرقص والغناء، وتتجاوب الزنازين الأخرى مع ما يحصل هنا، فيأخذن في الغناء والهناهين والزغاريد، فتهرع السجّانات لتتوقف الأذرع والأجساد بغتة، فتعمل السجّانة على دفع الأجساد الجامدة كي تشاهد ذلك الشيء الباهر الذي يشع من بطن السجينة. حينذاك تراودها رغبة جارفة في أن تتحوّل سجينة لتتمكن من مشاركتهنّ الفرحة بالمولود الجديد، وفي تلك اللحظة تستعيد لون بشرتها الطبيعية. هذه الولادة ستأخذ في النهاية بعداً رمزياً يشي دائماً بقدرات المرأة الإحيائية، وبدورها الحاسم في ديمومة الحياة الإنسانية على الأرض، ولو موضعتها الذكورة في ذلك الحيّز الضيّق المسمّى سجناً. نشر في العدد: 16681 ت.م: 05-12-2008 ص: 25 ط: الرياض