جمع القاص والروائي المصري محمد البساطي قصصاً كتبها عن السجن والسجناء خلال فترات متباعدة بين العام 1967 والعام 1996 وأصدرها في كتاب حمل عنوان "محابيس" صدر حديثاً عن دار ميريت في القاهرة. يبدو الكتاب جديداً في كون قصصه تلتئم في مناخ واحد هو مناخ السجن المصريّ القاسي و"الفقير" والذي لا يخلو من بعض الطرافة. وإن استُثنيت ثلاث قصص من الكتاب فأنّ البقية هي أشبه باللوحات السرديّة، السوداء والصامتة، ذات النزعة الكافكاوية أو العبثية. شخصيات لا أسماء لها ولا حتى أرقام كما تقتضي العادة في السجن وهي تحضر عبر الضمائر المجهولة هو، هم... مثلما يحضر الراوي - السجين المجهول بدوره عبر الضمير المتكلم الأنا ولكن ليزداد غُفلة والتباساً. فهو مجرّد راوٍ وشاهد لا يحكي قصّته وإنما "قصص" السجن أو السجناء وهي "قصص" مختصرة تماماً بأحداثها ومعالمها. أما السنوات المتباعدة التي كتبت فيها هذه القصص فهي لا تبدو ذات أثر، فالزمن الداخليّ للقصص جعلها متساوقة وكأنها كتبت في مرحلة واحدة. فاللغة هي نفسها وكذلك التقنية القصصية والأسلوب، علاوة على الجوّ المأسويّ الذي يتخلله مقدار من السخرية المرّة لئلا أقول السوداء. في القصة الأولى "الوشم" تبرز لعبة الشاهد والمشهود عليه وكلاهما من "نزلاء" السجن. الأول هو الراوي الذي يسرد والثاني هو الشخص "المجهول" الذي يسرد الراوي قصّته، وهي باختصار عجزه أي الراوي عن التعرّف الى هذا "المتهم" الذي جاؤوا به الى السجن من غير أن يتأكّدوا من جرمه أو من غير أن يثبتوا عليه التهمة. هكذا كان المحققون - السجّانون يوصون السجين - الشاهد ألا يتعجّل في نفي معرفته ب"المتهم" الجديد واضطروا الى تعريته من ثيابه عسى الراوي يتعرّف اليه فيعترف بما يُتّهم به. وفي هذا الجوّ السوداوي والقاتم يكتشف الراوي ما يحمل جسد المتهم من آثار تعذيب ومن جروح وندوب وحروق وثقوب وكدمات... يصبح "المتهم" في غرفة "الانتظار" أشبه ب"حيوان" أو ب"إنسان" يعامل كحيوان أو ككتلة من لحم قابل للتنكيل والتعذيب. فهو لا يفوه بكلمة بل ينظر ويتمدّد ويخضع للاختبار لا التحقيق البوليسي. وهو لا يبادر بل "هم" يفعلون به ما يشاؤون: "تقدّم الرجلان، رفعا الجالس من تحت إبطيه ودارا به حول الأريكة، أوقفاه أمام الحائط وخلعا سترته وقميصه...". قال الكاتب "خلعا سترته وقميصه" عوض أن يقول "خلعا عنه سترته وقميصه" أو أخلعاه... وكأنهما هما اللذان يرتديان السترة والقميص. ومثل هذا الفعل، وان لم يكن مقصوداً، يدلّ على هشاشة هذا الإنسان الذي تحوّل دمية من لحم وصمت وجروح بين أيدي جلاّديه. الحركة الوحيدة التي سيقوم بها من تلقائه هي التي رصدها الراوي - السجين في الختام عندما يغادر الحجرة: "رأيت الرجل يخرج قدميه من الحذاء ويتمدّد مرة أخرى فوق الأريكة ووجهه الى الحائط". القصّة الثانية التي تحمل عنوان "الخروج" أقلّ سوداوية من الأولى ولكنها أشدّ عبثية وسخرية. هاجس الراوي السجين أيضاً هو تاريخ خروجه الموعود به وكان حفره على جدار الزنزانة مشترطاً على نفسه ألاّ ينظر اليه دوماً. فالنظر اليه يعني تذكّره وتذكّره يعني احساساً عبثياً بالزمن يجعل "الاقامة" في السجن طويلة ومضنية. إلا أن الراوي الذي لم يستطع تحاشي النظر الى تاريخ خروجه المفترض ألصق ورقة فوق التاريخ المحفور لئلا يظل يسترق النظر اليه. لكنّ اضطرابه الداخلي وربما سأمه أو حلمه الدائم في الخروج كان يدفعه لرفع الورقة والنظر الى التاريخ المحفور. انها طريقة في قضاء الوقت الطويل والثقيل في الزنزانة. انها أيضاً طريقة عزاء يمني السجين بها نفسه كفعل خروج مجازي في انتظار الخروج الفعلي. إلا أن القصة لن تقتصر على هاجس السجين، فالزنزانة ضمّت سجناء آخرين وأطرفهم صاحب الصرّة وهي حوت ما حوت من أشياء وأشياء لا يعقل وجودها في السجن، ناهيك بالكلب السجين بدوره والمطر الذي كان ينزل من السقف... في قصّة "السجين" علاقة شبه صامتة بين الراوي السجين والسجين الجديد الذي "جاءوا به في الليل" داخل سجن هو غاية في الغرابة والقذارة... يسأل الراوي السجين الجديد عن اسمه فيجيبيه أن خطأ ما أودى به الى هنا. يعرف الراوي حينذاك انها المرّة الأولى التي يدخل فيها السجن. وهذا الصديق المريض سيدخل في عراكٍ مع مرضه وسيهوي قرب السور وسيئن ويحشرج ولن يلبث جسده أن يتخشب ثمّ تعود اليه الحياة تدريجاً ولكن مفعمة بالتعب والشحوب. اللقطة الجميلة في هذه القصّة تحصل في مطبخ السجن حيث مسجونان عاريا الصدر يطبخان العدس في وعاء أسود ضخم. وعندما كانا يفرغان كيس العدس تفرّ منه فئران وتقع في الوعاء الذي يغلي فتفرّ مرة أخرى لتقع ميّتة في الوعاء وتطبخ مع العدس... انه جو السجن الفقير والمدقع في فقره والذي غالباً ما يكون السجانون فيه من ذوي البطون النافرة التي تتفتق عنها القمصان... قد تكون قصّة "إعدام" وهي الأخيرة من أشدّ قصص الكتاب عبثية وسخرية وحدّة. لا أسماء هنا أيضاً بل راوٍ في سجن التحقيق ينتظر صدور الحكم في حقّه ويرصد حركة مساجين محكومين بالإعدام. كانا اثنين في البداية ثم أصبحا ثلاثة ثم صاروا أربعة، يقضون وقتهم في جمع القمامة في فناء السجن، يسير كلّ واحد منهم في جانب جارّاً خلفه كيسه. لكنهم لن يلبثوا أن يتناقصوا: كانوا أربعة ثم أصبحوا ثلاثة ثم اثنين ثم واحداً. ويتحدّث الراوي عن "الضجّة الخافتة" التي كانت تصحب اعدام الواحد تلو الآخر في الفجر وكيف كان ينصت اليها حتى تتلاشى نهائياً. أما الأخير الذي سينفذ فيه حكم الاعدام في الفجر المقبل فيراه الراوي واقفاً وحده في زاوية الفناء تحت "كشك" الحارس حاملاً كيسه يلتقط أعقاب السجائر والفئران الميتة والنفايات وكأنّه لا أحد أو كأنّه أعدم مع رفاقه ولم يبق منه سوى طيفه. إنه الإنسان - الطيف الذي لم يعد يميّز بين كونه حياً أو ميتاً. القصص الأخرى لم تخلُ من الطرافة وخصوصاً قصة "حديث من الطابق الثالث" وهي الوحيدة التي يحمل فيها السجين اسماً وهو عاشور. لكن القصة ستدور بين نافذة السجن حيث يقف عاشور والباحة الخارجية حيث تقف زوجته عزيزة حاملة طفلها. وستكون القصة عبارة عن حديث متقطع ومن بعد بين السجين الذي في الطابق الثالث وزوجته. يسألها عن الأولاد وعن النخلتين ويعلمها أنه سينقل الى سجن آخر... ويسألها لماذا لا تتكلّم وكأنه في حاجة ماسة الى أن يسمع صوتها. أما هي فكانت شبه مرتبكة، تنظر الى النافذة العريضة التي يطلّ منها زوجها وسجناء آخرون يتزاحمون للوقوف وراءها. وفي لقطة طريفة يرفع أحد السجناء جلبابه عن ساقيه ويصيح بها: "عزيزة بصّي"... أما قصّة "القطار الملكي" فيحتل السجن جزءاً منها بينما هي تدور حول القطار القديم الذي كان قطاراً ملكياً فخماً، ثم أصبح سجناً ثم حمل اسم "قطار الحرية" بعد أن وظّفه الحاكم في معركته السياسية. على أنّ قصة "محابيس" التي حمل الكتاب عنوانها قد تكون على قدر كبير من الطرافة أو الغرابة، إذ تقدم صورة استثنائية عن السجن المصري ذي الخلفية الشعبية أو "البلدية". إنه السجن الذي يسمح السجّانون فيه للزائرين أن يساعدوا "المحابيس" في أعمالهم اليومية وهي أعمال يدوية، وأن يبيتوا معهم في السجن أيضاً إذا هم شاؤوا. وهؤلاء الزائرون سينظرون الى أبناء بلدتهم "المحابيس" وسيتردّدون قليلاً في أن يبيتوا معهم ثم يبيتون. وفي الصباح كان الزائرون يكنسون المماشي ويزيلون الغبار عن المكاتب ثم "يطلق" سراحهم. إن بدت قصص محمد البساطي جميلة ومؤثرة في معظمها، ومتفاوتة بين نزعتين واقعية شعرية وعبثية مرّة، فهي نجحت في رسم صورة عن السجناء وعن السجن المصري، في طرافته وحقائقه، وعن السجّانين الذين لا يقلّون غرابة عن أجواء السجون التي تختلط فيها السخرية والمأساة والألم والبؤس. قصص أو لوحات قصصية ومشاهد قصيرة لكنّها تضمر الكثير من الأحوال والأفكار التي لا تحتاج الى أن تفصح عنها ما دام القليل كافياً لرسم صور الحياة الأليمة والعبثية التي تجري وراء الجدران أو علانية في باحات السجون على مرأى من العيون التي تنظر من هنا وهناك.