أنشأ النهضوي فرنسيس المراش نموذجه الافتراضي للتمدن الإنساني في عصر النهضة في القرن التاسع عشر، واتخذ لنموذجه الصوري"غابة الحق"تقنية الرواية الذهنية أو الفلسفية، كما تعرّف إليها في الغرب في ذلك الوقت، وصدرت بطبعتها الأولى في حلب عام 1865، كما اتخذ الحلم والمنام مدخلاً لمشروعه كشرط مسبق للانسحاب موقتاً من الواقع القائم والعودة إليه بالبدائل، وتسويغ الواقع المعياري الذي حلم به. والحلم او الرؤيا كانت تكنيكاً أدبياً وإشراقياً لتسويغ العزم والشروع بالأعمال الجليلة، من حلم المأمون بأرسطو لتبرير نقل الفلسفة والمنطق من اليونانية إلى العربية، إلى أحلام الصوفية والأولياء برؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لاستنهاض الأمة، وإيقاظ الضمائر والقلوب. وتختزل يوتوبيا"غابة الحق"مفردات عصر التنوير الأوروبي كما تََمَثّلها المراش والمشرق العربي، ففيها مملكة التمدن، أي التقدم، وهي مقولة عصر التنوير الأهم. إضافة إلى ركائز التقدم الحرية والعقل والحكمة والفلسفة والسلام، التي نصّبها المراش بمستوى الملوك والملكية، وتبدأ اليوتوبيا بحلم المراش بغابة لا يحدد مكانها وزمانها، لتعادل مفهوم اليوتوبيا اللامكان وتقوده خطاه إلى وسط الغابة التي تشهد الأحداث الدالة، علماً أن الجزر المنعزلة، والغابات كانت مسرح اليوتوبيا بامتياز، كما هي في أدبيات الشرق والغرب من حي بن يقظان إلى ابولينيز الجديدة لجان جاك روسو. وفي وسط الغابة تنتصب هياكل مملكة التمدن او العالم الجديد، الذي يستعرضه المراش، ويوظف معارفه الفكرية والأدبية لتوضيح أركان المملكة، فهناك نشاهد عرش مملكة التمدن المادي، وقد جلس عليه الملك، وعلى رأسه تاج كتب عليه، يعيش ملك الحرية، والى جانبه ملكة التمدن وعلى إكليلها كتب فلتحيا الحكمة، وهي إشارة شفافة جداً لكون الحرية مشروطة بالمسؤولية والعقلانية، ومن دون الحكمة تنقلب إلى فوضى او حرية مرعبة بتعبير هيغل. وفي مدخل مملكة التمدن نقرأ بدلاً عن لافتة الترحيب عبارتين:"العقل يحكم"و"العلم يغلب"وهما إشارتان دالتان على مستوى العصر وطبيعته. ويضع المراش من تلك المفردات مركباً نهضوياً قائماً بذاته. ومن خلال الحوار نتعرف إلى هموم الملك والملكة، وجدول أعمالهما، وهو جدول أعمال التاريخ، أي عقلنة التحرر ونشر الحرية، فتقترح الملكة إعادة تأهيل وتربية رعايا مملكة العبودية التي انهزمت للتو، وأخذهم باللين والسياسة، وبعد اخذ ورد مع الملك الحرية الذي يعبر عن اندفاعه بضرورة إعدام ملك العبودية، تقترح الملكة الحكمة الاحتكام إلى الفيلسوف العقل والمعرفة، وتطلب إحضاره فوراً من مدينة النور، كناية عن العلم والمعرفة، ضد الجهل او الظلام، وهي استعارات تداولتها نظرية المعرفة والفلسفة الأخلاقية منذ اليونان. فالإنسان الكامل هو الإنسان العارف او العالم، وبحضور الفيلسوف تبدأ المحاورة من جديد، ويطرح العقل الفيلسوف رؤيته للواقع، وللحرية، والحتمية، ليخلص إلى أن الضرورة تحكم الواقع، والطبيعة، والكون، وحتى المجتمع الإنساني، او ما يعرف بمجال الحرية، فلا يوجد فيه إلا شبه حرية، وهذا يعني أن الحرية والكمال الإنساني ومشروع التحرر ما زالت بعيدة من التحقق. وفي جانب آخر من الحلم يستعرض قائد جيش التمدن، ووزير السلام آخر المستجدات والأحداث، خصوصاً الجولة الأخيرة من الصراع مع مملكة العبودية التي استأنفت القتال، واعتمدت الخديعة والخيانة للنيل من مملكة التمدن، فترد قوات الحرية الصاع صاعين، خصوصاً وزير السلام، ما يدل على أن العنف والثورة ما زالا واردين للدفاع عن مكتسبات الحرية، وتحقيق التمدن، وهي رؤية متقدمة في فكر النهضة العربية. فأغلب النهضويين وقفوا كالفقهاء موقفاً سلبياً من الثورة والعنف لتحقيق الإصلاح والتقدم، واعتبروهما فتنة يجب تجنبها قدر الإمكان، فظلوا محافظين يدورون في التدرج والإصلاح والوسائل السلمية، ويستند فرنسيس المراش على مثال واقعي وهو نهوض العالم الجديد أميركا للدفاع عن الحرية والقضاء على مملكة العبودية في الجنوب. وتبدو هنا علاقة الملك بالفيلسوف علاقة سوية تعكس التلازم القائم بين العقل والحرية، بعكس العلاقة القائمة في الآداب السلطانية بين الملك دبشليم والفيلسوف بيدبا عند ابن المقفع، ويعكس هذا التلازم دور الأيديولوجيين المرموق عشية الثورة الفرنسية، فقد أطلق على مثقفي الثورة لقب فلاسفة وظهر في تلك الفترة مصطلح الايديولوجيا بمعنى علم الأفكار والأيديولوجيين صناع الأفكار وحراس الثورة، وبقي لهم شأن كبير حتى جاء نابليون وحقَّرهم وحط من مقامهم. وأخيراً يتوصل الملك بعد حوار طويل مع الفيلسوف إلى دعمه اللامحدود لنشر الحرية والقضاء على العبودية، وهي رسالة الثورة الفرنسية لشعوب أوروبا، حيث قامت جيوش الثورة بتنفيذها لدك عروش العبودية والاستبداد، وبعد ذلك يطرح الفيلسوف العقل رؤية كاملة ومتماسكة لأسس التمدن وغايته وأهدافه، وهي مستعارة من التنوير الفرنسي، الذي تعرف إليه المراش إبان زياراته وإقامته في باريس لدراسة الطب. وزاوج المراش بين روسو الرومانسي وبين فولتير العقلاني ومؤسس فلسفة التاريخ في تفسير العقد الاجتماعي وقيام المجتمع والسلطة وطاعة الأمير، وكيف تتنازل الرعية عن سلطتها وإرادتها، وتقدم له الطاعة الواجبة مقابل الأمن والسلام، وكيف تتجسد الإرادة العامة، ونجد شبهاً شديداً بين سياق الفرضية التي يسوقها المراش على لسان الفيلسوف، وتفسير فولتير لقيام الدولة من اتحاد الأسر وكيفية تشكل سلطة الأمير من خلال الصدام والانتصار على الخصوم المجاورين. وبعد ذلك يبدد الفيلسوف العقل مخاوف الملك الحرية من التقدم الروحي، ويعتبر مملكة الروح القوية الصلبة مكملة لمملكة التمدن، ويدعوه إلى مدّ يد التعاون والتحالف كناية عن رفض الازدواجية والتعارض بين القيم المادية والمعنوية او العلم والأخلاق، وبعد ذلك ينتقل الفيلسوف لتوصيف مملكة التمدن، فهي قائمة على مجموعة من الدعائم الأساسية، وهذه قائمة على مجموعة من الأسس والشروط اللازمة لاستمرارها، وهذه الدعائم هي: تهذيب السياسة بسيادة القانون، وتوفير الخدمات الاجتماعية، وهذا يتطلب أن يكون السياسي ورجل السلطة كريماً، عالماً بالعلوم الرياضية والأدبية، فطناً، عادلاً، قنوعاً، ذا أناة، بعيداً من السكر والعربدة. أما قواعد تهذيب السياسة فهي: تحقيق المساواة الاجتماعية والإخاء، وهي أهم شعارات الثورة الفرنسية الكبرى. ثم المطابقة ويقصد بها المراش أن تكون السياسة مطابقة بقوانينها وشرائعها، لما يقتضيه واقع الحال من دون زيادة او نقصان، بمعنى آخر، أن تكون مطابقة للبشر الواقعيين، منهم واليهم، وليس للبشر في شروطهم المعيارية او المثالية. وأما حماية المصالح العامة فتعني عنده تمهيد سبل العلوم وتطوير التجارة والزراعة والصناعة وحماية الممتلكات العامة. والدعامة الثانية للتمدن هي تثقيف العقل بالعلم والأدب، والثالثة تحسين العوائد والأخلاق لأنها أعظم دليل على حالة التمدن، ويقسمها المراش إلى الأخلاق الخاصة مثل الابتعاد عن النهم والكذب والفجور والجبن والغضب، والأخلاق العامة التي تخص الهيئة الاجتماعية او المجتمع وأهمها الابتعاد عن مظاهر الترف والإسراف والسفه والاستهلاك الترفي وإذلال النساء والعنف اللفظي. وهو بهذا التحديد يعكس حاجة الشرق العربي لقلب علاقاته الاجتماعية العمودية القائمة على العنف والاستبداد والتمايز الطبقي والمذهبي كما تعكس ما تعلمه وأتقنه من فنون الاتيكيت في باريس وفي صالونات الأدب والثقافة في الشرق ومنها صالون امه الشاعرة والأديبة مريانا المراش. وأما الدعامة الرابعة للتمدن، فهي الاهتمام بالصحة وأساسها عند المراش، تمهيد الشوارع ونشر أصول النظافة وترميم الأبنية. والدعامة الخامسة هي المحبة التي تأخذ حيزاً نظرياً لا بأس به، فهي أساس الحركة وعلاقات الأشياء المرتبطة ببعضها البعض في الكون المادي وهي بديل عن وحدة وصراع الأضداد في الجدل الهيغلي. وأما نقيض مملكة التمدن فهي مملكة العبودية القائمة على جملة قواعد تؤمن استمرارها في التاريخ وقواعدها هي الجهل والكبرياء والحسد والبخل والضغينة والنميمة والكذب والخيانة، وهي مفردات تختزل حياة الجماعة في مرحلة التفكك والانحطاط. ويشرح الفيلسوف أبعاد وأخطار هذه المفردات على المجتمع، أما عن كيفية تصفية روح التوحش والعبودية ومحو أثارها بعد هزيمة مملكة العبودية فتم بنشر فضائل التمدن للرد على التوحش وامتصاص رذائله وإعادة تأهيل الرعايا بالتربية العقلية والعلمية بنور الحرية والتمدن انطلاقاً من فكر التنوير وحتمية التغيير نحو الأفضل، ودور البيئة الاجتماعية في اكتساب الفضائل والرذائل وبالتالي فلا بد من تغييب معطيات الواقع القائم لتغيير طبيعة البشر وسلوكهم، فالإنسان عند جون لوك المتنور التجريبي الانكليزي، وأحد أصحاب نظرية العقد الاجتماعي هو صفحة بيضاء يمكن تشكيله وتوجيهه ويمكن إكسابه التربية والتهذيب. أما عند جان جاك روسو فهذا الإنسان طيب وخيّر بطبيعته. وعليه فقد رصد المراش الفضائل التالية للقضاء على رذائل التوحش والعبودية، وهي رؤية جدلية لواقع متحرك تستهدف الكمال الإنساني ونزع الشر من الواقع والنفوس وهذه الفضائل هي التواضع والرضا والقناعة والكرم والتسامح والصدق. ويكفي لتبني هذه القيم لتحقيق الإنسان الكامل والفضيلة والمجتمع المنسجم مع نواميس الطبيعة، ويعادل النظام الطبيعي مفاهيم الخير والسوي، والسير بانتظام وسلاسة وبساطة. وأخيراً يستيقظ المراش من حلمه الذي شاهد فيه غابة الحق كناية عن جاهزية مشروعه النهضوي الصوري. فيعتلي ربوة مطلة على مدينته الشهباء حلب وينظر صوب الشرق المشرق العربي فلا يجد إلا الخراب والتأخر، فيعتريه اليأس والإحباط من التغيير والتمدن، ويعالج نفسه بنفسه فينظر صوب الغرب أوروبا والعالم الجديد فيجد"الاخضرار يتموج من جانب الأفق وكأنه يهم أن يتدفق على كل تلك القفار اليابسة"، وبعد لحظات يسمع صوتاً هاتفاً يبشره ويبشر الشرق بالخير والرخاء القادم من جهة الغرب. بهذه الخاتمة التي عنونها باليقظة يصحو المراش من حلمه ويختتم غابة الحق ويحدد اتجاه التمدن ومصادره بالتغريب وأوروبا وأميركا، مجسداً فيها حكمته النهائية بعيداً من الأحلام والغفلة وكأن التغريب دواء الشرق النائم حقيقة قائمة بذاتها، وترتفع إلى مستوى اليقين وما على الشرق إلا تصويب نظره والانخراط فيه لتحويل حلمه بالتمدن إلى حقيقة واقعية. * كاتب أردني. نشر في العدد: 16703 ت.م: 27-12-2008 ص: 29 ط: الرياض