الجوازات تصدر 17.767 قرارا إداريا بحق مخالفين لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    محافظ رابغ يدشّن مبادرة زراعة 400 ألف شجرة مانجروف    فرنسا تندد بقرار أمريكا حظر منح تأشيرات دخول لمفوض أوروبي سابق    كوريا الجنوبية وأمريكا تبرمان اتفاقا جديدا للتعاون في مجال الغواصات النووية    السعودية تدين الهجوم الذي استهدف أفراد من الشرطة الباكستانية بمنطقة كاراك    مدينة جدة تتوج كأفضل منظم جديد في تاريخ سباقات الزوارق السريعة للفورمولا 1    أمير تبوك يواسي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    تعليم الطائف يطلق اللقاء التعريفي لبطولة «عقول» لمديري ومديرات المدارس    رئيس جامعة القصيم يرعى مؤتمر «الحرف اليدوية في عصر التحول الرقمي: فرص وتحديات»    جمعية أدبي الطائف تقيم أمسية أدبية منوعة احتفاء بيوم اللغة العربية العالمي    اندلاع حريق بموقع صناعي في تولا الروسية    الذهب يتجاوز 4500 دولار للأونصة    نائب أمير تبوك يؤدي صلاة الميت على الشيخ أحمد الخريصي    مصرع رئيس الأركان العامة للجيش الليبي في حادث تحطم طائرة بتركيا    الإدارة الذاتية: استمرار التوتر تهديد لاتفاق الشرع وعبدي.. ارتفاع قتلى قصف «قسد» في حلب    نائب أمير الشرقية يهنئ مدير تعليم الأحساء    سلطان عُمان يستعرض مع ابن فرحان المستجدات الإقليمية والدولية    جدة تستضيف نهائيات «نخبة» آسيا    نخبة آسيا.. بن زيما يقود الاتحاد لتجاوز ناساف    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    سلطان عُمان يستقبل سمو وزير الخارجية    أمير الباحة يطلع على مستجدات مشروعات المياه    موجز    إحباط تهريب 131 كلغم من القات    دلالات تاريخية    فلكية جدة: النجوم أكثر لمعاناً في فصل الشتاء    أقر القواعد الموحدة لتمكين ذوي الإعاقة بالخليج.. مجلس الوزراء: الموافقة على قواعد ومعايير أسماء المرافق العامة    اطلع على سير العمل في محكمة التنفيذ.. رئيس ديوان المظالم: تفعيل المبادرات الابتكارية في مفاصل «التنفيذ الإداري»    رعى «جائزة مدن للتميز»..الخريف: الصناعة السعودية ترتكز على الابتكار والاستثمارات النوعية    كاتس يكرس سياسة الأمر الواقع.. وحماس تؤكد أنه انتهاك فاضح.. إسرائيل باقية في غزة وتتوسع في الضفة    «الخوص والسعفيات».. تعزز ملامح الهوية المحلية    مشروعات «الشمالية» في جناح «واحة الأمن»    روح وريان    خربشات فكر    بين الكتب والخبز    مسجد القبلتين.. شاهد على التاريخ    استعراض إجراءات حماية عقارات الدولة أمام أمير الشمالية    «الشؤون الدينية» تعزز رسالة الحرمين    «فايزر» تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجربة    المنظار الأنفي.. تطور علاجي في استئصال الأورام    السعودية تستورد 436 ألف كيلو جرام ذهبا خلال 4 سنوات    في عامه ال100 أبو الشعوف يواصل الزراعة    3095 شخصا تعرضوا للاختناق ثلثهم في مكة    ساخا أبرد بقعة على الأرض    جدة تستضيف نهائيات دوري أبطال آسيا للنخبة 2026    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    كرات ثلج تحطم رقم Guinness    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    نجاح أول عملية للعمود الفقري بتقنية OLIF    فلتعل التحية إجلالا وإكبارا لرجال الأمن البواسل    أمير الجوف يرأس اجتماع اللجنة العليا لدعم تنفيذ المشاريع والخدمات للربع الثالث 2025    «نسك حج» المنصة الرسمية لحجاج برنامج الحج المباشر    تخريج دفعة جديدة بمعهد الدراسات للقوات الجوية بالظهران    الكلام    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنوار فرنسيس المراش
نشر في الحياة يوم 15 - 02 - 2007

لو كان لفرنسيس فتح الله مرّاش الحلبي 1835 أو 1836 - 1873 أو 1874 صاحب الرواية الفلسفية المسمّاة "غابة الحق" أن يبعث حيّاً في أيّامنا الراهنة التي تشهد احتدام العولمة المتوحّشة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لربما كان أعاد النظر في موضعة التمدّن والتوحّش، في روايته. فهو يتصوّر فيها جيش التمدّن في صراع مرير مع جيش التوحّش، ويلبس لبوس التمدّن لأميركا الولايات المتحدة الأميركية قائلاً في مقدّمة الرواية:"... هوذا العالم الجديد أميركا قد رفض قبول شريعة العبوديّة، ولذلك قد نهض ضدّ هذه العادة الخشنة بالأسلحة والنار، إذ ما عاد يحتمل وجود بقيّة لدولة التوحّش على سطح الأرض".
وإذا وضعنا هذه الرواية التي تمجّد الحرّية والعدالة والعقل والحكمة والمنظومة الدينية للأخلاق، في حيّزها التاريخي، لوجدنا أنها نشرت في طبعتها الأولى في العام 1865 في المطبعة المارونية بحلب.. ثم صدرت بعد ذلك في طبعات متعدّدة كان آخرها طبعة دار المدى بدمشق العام 2002 بتقديم ودراسة معمّقة لجابر عصفور وأنّ تاريخ صدورها جاء عشيّة انتهاء الحرب الأهليّة في أميركا بانتصار الشمال على الجنوب وتحرير العبيد، وبعد اندلاع الثورة الفرنسيّة وسقوط الباستيل في العام 1789، واندلاع مبادئ الثورة في الحرّية والعدالة والمساواة في فرنسا وفي أوروبا والعالم أجمع، بما في ذلك أقطار السلطنة العثمانيّة التي كانت تشهد صراعاً بين التخلّف والتقدّم... وبين المبادئ الدينيّة لدولة الخلافة والمبادئ المدنيّة للدولة الحديثة التي نادت بها الثورة... في هذه الفترة المحورية من تاريخ أوروبا وأميركا والسلطنة العثمانية بالذات، صدرت رواية المرّاش الحلبي، والتي اعتبرت رواية تنويرية مبكرة بامتياز، سبق بها صاحبها جيل المفكّرين والأدباء التنويريين المعدودين من أمثال فرح أنطون في روايته الفلسفية"المدن الثلاث"وأمين الريحاني في كتاب"خالد"وميخائيل نعيمة في"مرداد"وجبران خليل جبران في"النبي". إنّ ثمّة بصمات ملموسة من"غابة الحق"في أعمال هؤلاء الرياديين التنويريين العرب، لجهة توسّل الأسلوب الرمزي والكناية في سبيل التعبير عن الأفكار السياسيّة أو الاجتماعيّة أو العقليّة بأبعادها الثوريّة، فضلاً عن ذاك المزج اللطيف بين الأدب الروائي والفلسفة، وهي سمة من ذكرنا من هؤلاء الرياديين.
لا ريب في أنّ استعادة فرنسيس المرّاش، هنا والآن، من خلال إعادة طبع كتبه، وتيسير انتشارها وتداولها بين المثقفين العرب المعاصرين، ومن خلال دراسة أدبه وأفكاره التنويريّة دراسة متقصّية وعلميّة، تشكّل حاجة معاصرة للثقافة العربيّة اليوم، في وضعها المأزوم وصراعها الدامي من أجل الحرّية والتمدّن، والخروج من حالات التوحّش التي تعاني منها شعوبها المتخلّفة، وتستغلها دول العولمة القويّة وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية بتوحّش آخر، أكثر وطأة وهمجيّة من توحّش القرن التاسع عشر الذي عاش فيه المرّاش... وأستلهم من نقيضه المتمثّل بتحرير العبيد في أميركا، رمزه البطولي للحرّية والتمدّن... لو عاد المرّاش اليوم لوجد أنّ الزمان قد مال... وأنّ تموضع الرموز قد اختلف بل، انقلب رأساً على عقب، ولربما كان أضاف فصلاً جديداً لفصول روايته الجميلة الرائية"غابة الحق".
لقد ظهرت عن فرنسيس المرّاش الحلبي دراسات متناثرة، لعلّ أكثرها نفاذاً دراسة جابر عصفور في تقديمه للطبعة الجديدة لغابة الحق، لكنّ أشمل هذه الدراسات وأكثرها إحاطة وتقصّياً وكشفاً عن الرجل ومؤلفاته وأفكاره، هي الأطروحة التي قدّمها لنيل الدكتوراه، كرم، وأجيزت بامتياز بعنوان"الفكر الليبرالي عند فرنسيس المرّاش"بنيته وأصوله وموقعه في الفكر العربي الحديث، وقد صدرت في سلسلة أطروحات الدكتوراه عن مركز دراسات الوحدة العربية في كانون الأول ديسمبر 2006، بمقدمة ناصيف نصّار، المشرف على الأطروحة. نحن هنا أمام عمل علمي دؤوب، متقصّ، منهجي، قام به دارس ذو"جَلَد جرماني"كما يقال نبش في زوايا المكتبات وعشرات المراجع من كتب وصحف، لكي يلملم من زوايا الإهمال أو النسيان عناصر دراسته، وينشئ عموداً فقرياً لبناء فكري فلسفي وأدبي متذرّر، لفرنسيس المرّاش، فالباحث يذكر أنّ دافعه لدراسة هذا الرائد التنويري بالذات هو سؤال ثقافي مربك ما زال يُعاد ويُستعاد من أيام المرّاش في منتصف القرن التاسع عشر، حتى اليوم، وهو:"لماذا تأخّر العرب وتقدّم الآخرون؟"خلاصة تنفيذية ص 13. والجواب هو غياب الحرّية وشيوع الاستبداد... وتماديه... لقد لاحظ الباحث أنه كان ثمّة في منتصف القرن التاسع عشر، مع المرّاش ومجايليه واللاحقين به من التنويريين العرب..."لحظة ليبراليّة في فكرنا العربي الحديث قد تعثّرت وانكفأت"ص 13. ويسأل: هل يمكن استعادتها من جديد؟.
ابن القرن التاسع عشر
لقد وُجد رجل طرح في ستينات القرن التاسع عشر ومطلع سبعيناته المبادئ الأساسيّة لحقوق الإنسان قبل الإعلان العالمي لهذه الحقوق بأكثر من ثلاثة أرباع القرن، ويعيد إنتاج قيم وأسس الفكر الليبرالي الغربي في الثقافة العربيّة"بأسلوب عبقري وإبداعي"... إنه فكر وإبداع فرنسيس المرّاش الحلبي، عيناً، فلماذا لا نستعيدها اليوم، كما لو أننا نؤلفها... لأن هذه الأفكار مذررة ومتناثرة، كما يلاحظ المؤلف، وهي غير واردة في سياق منهجي، كما أنها متناقضة أحياناً وملتبسة، تعتمد الرموز، وتنحو منحى التجريد، فكان لا بد إذن من المقارنة، والتأويل والاستنتاج. إن طبيعة أفكار المرّاش وتنوّع إبداعاته بين رواية وشعر ومقالة، فرض على الباحث الأسلوب الاستقرائي للوصول إلى نتائجه. فهو يرسم معالم ومحطات الدراسة، لا على أساس أيديولوجي، بل انطلاقاً من النصوص ذاتها، فهو يستنطق النصوص لا سواها، كأساس لاستنتاجاته الجوهريّة في أفكار المرّاش في الحرّية والتمدّن والعدالة والعلم والمرأة والدين والأخلاق والسياسة والحكم... والحكمة... أيضاً. لكنه يُدخِل على هذا المنهج الاستقرائي غير الأيديولوجي منهجاً مساعداً آخر هو المنهج التاريخي المتمثّل بدراسة الظروف التاريخيّة والبيئيّة والفكرية المقارنة، لحياة المرّاش، وثقافته، لبيئته وأسفاره إلى باريس بخاصة فقد زارها مرتين، وللتيّارات الفكريّة والسياسيّة التي تأثّر بها الرجل، فضلاً عن أثره في مَنْ عاصره وتلاه من رجال الفكر والأدب التنويريين العرب... هذه الدراسة التنصيصيّة أي المستندة إلى نصوص المرّاش بالذات أولاً، والتاريخية الفكرية المقارنة، هي التي قامت على منهج علمي من جهة، غير أيديولوجي، وقادر على الوصول لاستنتاجات سبق كرم الحلو في بعضها دارسين للمرّاش... مثلاً يكشف الباحث عن عدم تماسك يصل لحدّ التناقض في بعض مواقف الرجل وأفكاره، فتأتي أواخرها مناقضة تماماً لأوائلها... من ذلك موقف المرّاش من الغرب، فقد كشف الباحث عن كونه"تعرّض للتبدّل والتحوّل والتناقض. بهر في البداية بإنجازات الغرب العمرانيّة... ورأى في باريس فردوساً أرضياً، فهو مصبّ العجائب وموقع أنوار التمدّن والآداب... الخ"لكنه ما لبث أن تراجع عن هذه النظرة الفردوسية لباريس، وذلك منذ السنة الثانية لإقامته فيها، إذ أصبحت تمثّل له القهر والعذاب والاغتراب ص 22.
يتساءل كرم الحلو عن السبب في هذا التبدّل الجذري لموقف المرّاش من باريس، فيعيده إلى عناصر موضوعيّة متمثّلة بما وقعت فيه باريس من نزاعات دمويّة بعد الكومونة، وما وقع في أوروبا من حروب وحشيّة ومنها الحرب البروسية الفرنسية... هذا من الناحية الموضوعية... أما من الناحية الذاتية فيلاحظ الكاتب المأساة الشخصيّة التي وقع فيها المرّاش باعتلال صحته وفقده لبصره وعودته المبكرة إلى حلب ليموت فيها وهو في ريع الشباب... لهذه الأسباب كتب المرّاش في مجلة"الجنان"التي كان يشرف عليها المعلم بطرس البستاني وكتب فيها المرّاش عدداً من المقالات... كتب"سياحة العقل"و"يوم في باريز"و"التمدّن المتوحّش"وقصائد"العرب والإفرنج"و"نبوة الماضي"... الخ.
وقد استطاع باكراً التمييز بين الغرب الليبرالي المنحاز للحرّية والتمدّن والعقل وحقوق الإنسان، والغرب الاستعماري قاتل الشعوب الضعيفة وسالبها حرّياتها وثرواتها. تظهر بصمة من ناصيف نصّار في دراسة كرم الحلم، لجهة الاهتمام الفكري الفلسفي بالأدب... فإن فرنسيس المرّاش الحلبي هو أديب متفلسف... أو بالأحرى من خلال"غابة الحقّ"بالذات، هو صاحب رواية فلسفية... فلم يدرسه الدارس كأديب محض ولا كفيلسوف محض، بل كخليط من هذا وذاك... فهو"أديب وشاعر تضمنت مؤلفاته أفكاراً فلسفيّة في السياسة والمجتمع والإنسان، يجب تحديدها ومقارنتها بفكر معاصريه من أجل الوقوف على فكره الليبرالي"ص 28. من أجل ذلك لم يغص الباحث غوصاً أدبيّاً عميقاً في"غابة الحقّ"على غرار ما فعل جابر عصفور... فقد كشف عصفور عن دور المرّاش في روايته المبكرة البديعة هذه في انطاق المسكوت عنه والتطلّع إلى وعود الزمن القادم مستعيناً بحيل أليغوريّة رمزيّة تمثيليّة، مستفيداً من الرواية الأليغورية Allegorical Novel التي تقول شيئاً وتعني غيره،"وتتحوّل أحداثها وشخصيّاتها إلى معادل رمزي مباشر لأفكار كاتبها، معتمدة في بناء أحداثها وشخصيّاتها على ما يشبه الاستعارة المكنيّة التي يُراد بها لازم معناها وليس ظاهر معناها"غابة الحقّ حلم الدولة المدنيّة، دراسة جابر عصفور ص 13 من طبعة دار المدى 2002. وقد استعان المرّاش بحيل أشباه الحكيم بيدبا مع دبشليم الملك، كما تجلّت في تراث ابن المقفّع... يتّفق كلّ من جابر عصفور وكرم الحلو على أنّ فرنسيس المرّاش الحلبي، هو حاضر في هذا العصر بالذات، بل هو حاجة معاصرة معاصرنا من خلال أفكاره المبكرة في الحرّية والتمدّن والعقل والعلم وإعطاء المرأة حقّها، فضلاً عن ضرورات الحكمة والفلسفة في مجتمع عربي راهن يرسف في أغلاله الكثيرة المركّبة. كما يتفقان في أن فرنسيس المرّاش، مبدع منسي أو رائد مجهول بتعبير عصفور وعقل تنويري متفتّح مبكّر لم ينل حقّه في البحث والدراسة بتعبير الحلو... من أجل ذلك كله كان لنا هذا البحث الممتع والضروري، وهذا الكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.