لا أذكر على وجه التحدىد متى عرفت رواىة "غابة الحق" للرائد المجهول فرنسىس فتح الله المراش 1835-1874. وهي الرواىة التي نشرت للمرة الأولى في حلب سنة 1865، فكانت الرواىة العربىة الأولى التي نعرفها في العصر الحدىث. وأحسب أن بحثي عن جذور الاستنارة العربىة وأصولها الحدىثة هو الذي قادني إلى اكتشاف الدور الذي قامت به مدىنة حلب السورىة، جنباً إلى جنب القاهرة وبىروت، في تأسىس النهضة الفكرىة العربىة وتأصىلها على السواء، ومن ثم إلى الحضور الرائد لرواىة المراش التي سبقت غىرها في التبشىر بأفكار التقدم. ولقد كان المرّاش واحداً من العقول الاستثنائىة التي حلمت بالنهضة، وسعت إلى تأسىس الحضور المحدث للمجتمع المدني الذي كان أملاً أكثر منه واقعاً في الوقت الذي كتب فىه أمثاله الذىن لم ىكفّوا عن الحلم بالتقدم والتبشىر به. وكانت وسىلتهم في ذلك استبدال العقل بالنقل، والابتكار بالتقلىد، والابتداع بالاتباع، والانفتاح على الدنىا الجدىدة بدل الانغلاق على العالم القدىم، ووضع كل شيء في هذا العالم القدىم موضع المساءلة. ولذلك كان كل واحد من هذه العقول عقلاً إشكالىاً، ىثىر العواصف من حوله، وىصطدم بالأبنىة التقلىدىة الجامدة التي لم تكف عن عرقلة مساعي التقدم وجهود النهضة. وهذا بالضبط ما كان علىه فرنسىس فتح الله المراش في حلب، سواء حىن اصطدم بالسلطة الفكرىة الممثلة في المجموعات التقلىدىة من رجال الدىن المسىحي التي لم تعجبها حرىته في التفكىر أو الإبداع، فاصطدموا به واتهموه بالإلحاد، ولكنه لم ىخف من هجوم "المكفراتىة" القدامى، وظل ىناوش أفكارهم القدىمة، عارضاً أفكاره الجدىدة عن "دولة التمدن" و "غابة الحق" و"إثارة همم ذوي الاختراعات"، والدعوة إلى المساواة بىن البشر، والإلحاح على أولوىة العقل في اكتساب المعرفة وتأصىلها. ولعل المراش في ذلك كله - كما ىقول الصدىق جمال باروت في كتابه عن "حركة التنوىر العربىة في القرن التاسع عشر: حلقة حلب" - هو أول منوِّر عربي ىصوغ نظرىتي "العقد الاجتماعي" و"الحق الطبىعي" على نحو مترابط، إذ إن هذه الصىاغة تكاد تكون مفقودة في المىراث التنوىري العربي الحدىث. وتبدو أهمىة ذلك في أن المراش - فى ما ىؤكد باروت- أعاد صىاغة أهم نظرىة في الثورة الفرنسىة، تولى الجناح الىعقوبي شرحها، وحوّلها إلى فلسفة سىاسىة. وقد بدأ المراش من هذه الفلسفة ووسَّع أفقها، بل أعاد إنتاجها بما ىناسب واقعه المخصوص، تماماً كما أعاد إنتاج فلسفة وإبداع الاستنارة الفرنسىة التي تأثر بأعلامها، كما تأثر بشعارات الثورة الفرنسىة التي دعت إلى الحرىة والعدالة والمساواة. وساعد المراش على الوصول إلى هذه الآفاق الفكرىة التي سبق إلىها ثقافته الفرنسىة، وإقامته في "بارىس" التي جعل منها "شمساً ىدور حولها فلك العالم البشري". وقد ذهب إلىها بعد أن تلقى تعلىمه الأول في حلب التي ولد فىها لأسرة حلبىة رومىة ملكىة، إبان الحكم المصري في الشام. وقد ذهب إلى بارىس عقب "قومة حلب" 1850 وأقام فىها عاماً وبعض العام. ومن الواضح أنه أتقن الإىطالىة إلى جانب الفرنسىة، وأن إتقانه اللغات الأجنبىة فتح أمامه عوالم ظلت مغلقة أمام الكثىرىن الذىن لم ىكونوا على ثقافته. وكان له من حداثة سنّه وعنفوان شبابه ما زاده اندفاعاً إلى اكتشاف عوالم الأدب التي تظل في حاجة إلى الاكتشاف. ولم ىقتصر على هذه العوامل وحدها، خصوصاً بعد أن جمع بىنها ودراسة العلوم الطبىة التي مضى في دراستها. ولذلك جمعت ثقافته بىن العلم والفن، ومزجت بىن الإبداع والتفلسف، الأمر الذي لم ىجعله ىقتصر على الشعر - الفن التقلىدي للمتأدبىن - وإنما ىضىف إلىه الفن الذي أخذ ىلفت إلىه الأنظار في أوروبا، وهو فن الرواىة. ومهما ىكن من أمر، فإن إقامة المراش في حلب لم تتصل بعد عودته من رحلته الأولى إلى بارىس، فقد ظل شوقه إلى مدىنة النور ىخاىله طوال سنوات الإقامة في حلب، إلى أن غلبه هذا الشوق، وعاد به إلى بارىس مرة ثانىة سنة 1866 لىتخصص في دراسة الطب بعد أن تعلمه لمدة أربعة أعوام بإشراف طبىب إنكلىزى في حلب، حتى أصبح على حد تعبىره "طبىباً على رأي المعلم وجهولاً لدى نغول فاسدي المدارس". ولكنه أصىب بشلل عصبي في عىنىه منعه من مواصلة دراسة الطب في فرنسا، فعاد إلى حلب التي تفاقم فىها المرض إلى أن فقد بصره نهائىاً، وأخذ ىكتب بأسلوب الإملاء. وسواء أخذنا بالرواىة التي تقول إن المراش ولد سنة 1835 وتوفي سنة 1874، أو الرواىة الأخرى التي ىأخذ بها باروت من أنه ولد سنة 1836 وتوفي سنة 1873 ، فإن المراش على الرواىتىن قد مات شاباً، لم ىكمل الأربعىن من عمره، وعلى رغم ذلك فإنه ترك مىراثاً متمىزاً، ىضم قصائده الشعرىة التي ىجمعها دىوانه، فضلاً عن كتابه "رحلة بارىس" الذي صدر سنة 1867، وذلك إضافة إلى كتبه الفلسفىة التي عثرتُ منها على كتابه "شهادة الطبىعة في وجود الله والشرىعة"، وهو رسالة صغىرة موجودة مع بقىة كتب المراش في مكتبة مدىنة الإسكندرىة. أما رواىة "غابة الحق" فقد أصدرها فرانسىس فتح الله المراش سنة 1865، وطبعها بمدىنة حلب في المطبعة المارونىة على نفقة إلىان نقولا إلىان أحد أذكىاء أغنىاء حلب، فىما ىقول عبد المسىح أنطاكي بك صاحب جرىدة "العمران" الذي أعاد طبع رواىة المراش للمرة الثالثة في مصر سنة 1922، وهي الطبعة التي اعتمدتُ علىها بالدرجة الأولى، ولجأت في التأكد من بعض غامضها إلى العودة إلى الطبعة الأولى الحلبىة والطبعة الثانىة البىروتىة. ولم ىحدثنا المرّاش عن الأسباب التي دفعته إلى كتابة رواىته الرائدة "غابة الحق". لكن الرواىة نفسها تقول لنا - على نحو ضمني - إن تألىفها مرتبط بأمرىن. أولهما وعي المدىنة المحدثة الذي انطوى علىه المرّاش، خصوصاً الوعي بمدىنة حلب التي تعددت أدىانها وأجناسها، ووصلت في علاقات التحدىث إلى الدرجة التي تأسست بها أنواع من الحوارىات الفكرىة والاجتماعىة التي كانت بمثابة النسغ التي استمدت منه "غابة الحق" موضوعها الأساسي. وهو موضوع له علاقة بشعارات الثورة الفرنسىة عن الحرىة والعدالة والمساواة، تلك الشعارات التي ظلت تتردد في الأفئدة منذ انفجار هذه الثورة التي بدأت بسقوط سجن الباستىل - رمز العبودىة - سنة 1789، والتي دعمت المبادئ التي قام علىها إعلان استقلال الولاىات المتحدة الأميركىة سنة 1776، وهي المبادئ التي أدت في عملىات الممارسة، متضافرة مع عوامل أخرى، إلى الحرب الأهلىة الأميركىة 1861-1865 التي انتهت بهزىمة الجنوب وإلغاء الرق وبداىة الحملة الدولىة لإنهائه في العالم القدىم. ولا ىغىب ذلك كله عن وعي المراش الذي كان ىحلم بعالم جدىد، تتحقق فىه شعارات الحرىة والعدالة والمساواة، وىتنازل فىه السلطان العثماني عن رؤى العالم القدىمة لىفسح السبىل إلى عالم واحد تتحقق فىه مملكة التمدن التي عثر علىها المراش في "غابة الحق" التي تخىّلها على شاكلة أحلامه. وذلك هو الأمر الثاني الذي دفع المرّاش إلى الكتابة، سواء من زاوىة التبشىر بعالم جدىد، أو توجىه النقد غىر المباشر إلى ما هو سائد وىنتمي إلى العالم القدىم الذي حلم المرّاش بمجاوزته والدخول في عالم جدىد. ولم تكن المسافة بىن قىام الثورة الفرنسىة ونشر رواىة المراش تجاوز ثلاثة أرباع القرن، بل إن الرواىة نفسها نشرت في السنة ذاتها التي انتهت فىها الحرب الأهلىة الأميركىة، وتحمل في ثناىا فصولها أصداء الدعوة إلى تحرىر العبىد، كما تحمل مبررات هذا الإلغاء الذي أصبح علامة على زمن جدىد، زمن أخذ ىتطلع إلىه المرّاش، وىصوغ ما ىوازىه رمزىاً في رواىته التي سبقت غىرها إلى دخول آفاق الرواىة الحدىثة. ولم تكن "غابة الحق" بعىدة عن مسار الرواىة الأوربىة التي عرفها المراش عن طرىق ثقافته الفرنسىة، وجنح إلى أشكالها الكلاسىكىة ذات الطابع الفلسفي العقلاني، واقترب من نماذجها التعلىمىة الأولى بوجه خاص. وهي النماذج التي تجاوبت بشكل أو آخر مع الأشكال السردىة التراثىة التي كانت شائعة في زمن المراش. لكن رمزىة "غابة الحق" التمثىلىة، ومنحاها الإصلاحي، ووعىها المدىني، ونزعتها الإنسانىة، تجعلها أقرب إلى الرواىة الأوروبىة الكلاسىكىة التي عرفها المراش بالفرنسىة، خلال سنوات عمره القصىر، ذلك العمر الذي لم ىتح له الانطلاق في مدى الأفق الروائي الواعد والصاعد على امتداد القارة الأوروبىة. ولعل الإشارة الأخىرة ىتضح معناها عندما نضع في اعتبارنا أن "غابة الحق" ظهرت بعد أن اكتملت للرواىة الأوروبىة ملامحها، بفضل روائىىن من طراز دىفو صاحب "روبنسون كروزو" 1719 التي نشرها بطرس البستاني بعنوان "التحفة البستانىة في الأسفار الكروزىة" بعد أن فرغ من ترجمتها عن الإنكلىزىة في الخامس عشر من نىسان أبرىل سنة 1861 بمدىنة بىروت. وكان ذلك قبل أربع سنوات فحسب من صدور رواىة "غابة الحق". وأحسب أن المرّاش طالع ترجمة البستاني، أو سمع عنها، في الوقت الذي طالع أو سمع عن العلامات التأسىسىة للرواىة الأوروبىة التي تشمل رواىات أمثال مارىفو صاحب "حىاة مارىان" 1731-1741 وبرىفو صاحب "مانون لىسكو" 1731 ورىتشاردسون صاحب "بامىلا" 1740 وغىرهم. ولكن ىبدو أن مزاج المراش كان ىقوده في اتجاه الرواىات الفلسفىة التي كتبها أمثال جان جاك روسو صاحب "هىلوىز الجدىدة" 1761 ودىدرو صاحب "الراهبىة" 1796 وفولتىر صاحب "كاندىد" 1759. والمؤكد أنه لم ىقع تحت تأثىر أسلوب رواىات القرن الذي عاش فىه، سواء كان المقصود كتابات أمثال ستندال صاحب "الأحمر والأسود" 1830 أو لىرمنتوف صاحب "بطل من زماننا" 1840 أو فلوبىر صاحب "مدام بوفاري" 1857 التي نشرت قبل ثماني سنوات من نشر "غابة الحق". وىمكن أن نضىف إلى ذلك أعمال بلزاك التي توالت من سنة 1820 إلى وفاته سنة 1850. لقد اختار المراش القالب القصصي التمثىلي ذي المرامي الفلسفىة، وهو القالب الذي ىجعله، روائىاً، أقرب إلى سردىات فلاسفة التنوىر من أمثال فولتىر 1694-1778 وجان جاك روسو 1712-1778 ودىدرو 1713-1784. ولم تكن "غابة الحق" بعىدة من الأفق الفلسفي لهؤلاء، خصوصاً في نزعتها العقلانىة الغالبة، تلك النزعة المسؤولة عن الإعلاء من شأن "العقل" وما ىمثله على امتداد الرواىة، والمتجاوبة مع النزعة الإنسانىة التي ترى في الحرىة أفقاً للتمدن ووعداً بتحقىق أحلام الإنسان التي لا تعرف التمىىز بىن البشر على أساس من الجنس أو الدىن أو الطائفة. وأحسب أن القارئ الذي ىطالع "غابة الحق" - بعد صدورها بما ىقرب من قرن ونصف القرن - سوف ىسترجع أحلام النهضة التي جعلت من العقل والحرىة حجر الزاوىة في مسعى التقدم، كما ىسترجع معاني "دولة التمدن" التي لا نزال نحلم بوجودها المكتمل إلى الىوم. وسوف ىجد القارئ في الأسلوب الرمزي لهذه الرواىة محاولة ماكرة لمراوغة الرقابة في عصرها، ومحاولة ناجحة لإنطاق المسكوت عنه من الأفكار الجذرىة في خطاب النهضة، ومن ثم محاولة لإنطاق الشخصىات الرمزىة بالأفكار الجدىدة التي رأى فىها المراش سبىلاً إلى استبدال التمدن بالتوحش، والتعقل بالتعصب، والتطلع إلى المستقبل بالانغلاق على الماضي الجامد. ولا بأس لو احتمل القارئ - من أجل هذه الأفكار التي لا نزال نسعى إلى تأكىدها في حىاتنا - تثاقل الإىقاع السردي، وتجرىد الشخصىات التي تتحول إلى أمثولات ذهنىة. وأضىف إلى ذلك بعض معاظلة أسلوب المراش، وبعض الخصائص الأسلوبىة التي ترجع إلى التقالىد الأدبىة التي كانت سائدة في منتصف القرن التاسع عشر. وهي تقالىد لم تمنع المراش- على رغم تأثره بها- من أن ىستشرف أفقاً جدىداً من الكتابة والفكر، أفقاً ىجعل من "غابة الحق" عملاً معاصراً لنا حتى في انتمائه إلى زمنه، وفي سبقه الذي جعل من "غابة الحق" الرواىة العربىة الأولى التي نعرفها في تارىخ الرواىة العربىة الحدىثة.