منذ زمن بعيد، وحتى في الآداب العربية، وفي"ألف ليلة وليلة"، هناك حضور كثيف للديكتاتوريين في الروايات والقصص، ناهيك بوجودهم في الكتب العلمية ونصوص الفكر السياسي. ولكن في القرن العشرين خصوصاً، وبعدما أبدع الفرنسي ألفريد جاري، في كتابة عمله التأسيسي عن الديكتاتور في"أوبو ملكاً"، راح هذا الديكتاتور يحضر، في نص واحد على الأقل لكل كاتب من كتّاب أميركا اللاتينية. وكان الأمر طبيعياً، حيث تضافر ازدهار الأدب الروائي والقصصي، مع الحضور الطاغي لحكام ديكتاتوريين، مع سهولة تحرك الكتّاب في معزل عن الرقابات، حيث جعلت وحدة اللغة كل كاتب قادراً على إبداع عمل عن ديكتاتور في بلده، ينشره في بلد آخر. تضافر هذا كله ليوجد ذلك الازدهار الذي تمثّل في أعمال حملت تواقيع الكوبي كارابانتييه، والغواتيمالي استورباس أوروا باستوس... وغيرهما، وفي هذا الإطار لم يكن في وسع الكولومبي الكبير غابريال غارسيا ماركيز، إلا أن يكتب بدوره رواية أساسية عن الديكتاتور، حتى وإن كنا نعرف أن في معظم أعماله ديكتاتوريين صغاراً، سابقين أو لاحقين، صغاراً أو كباراً. ماركيز ما كان يمكنه، وهو ما هو عليه، إلا أن يخص الديكتاتور، برواية تتحدث عنه من أولها الى آخرها. وكذلك ما كان في إمكان ماركيز أن يجعل روايته عادية، تشبه غيرها من روايات الديكتاتوريين. كذلك فإن ديكتاتوره لم يكن في أي حال من الأحوال ديكتاتوراً عادياً. فالحال أن ماركيز نوّع كثيراً على هذا الموضوع وكثّف أكثر. فإذا كان زملاؤه الذين ذكرناهم والآخرون الذين لم نذكرهم، قد جعلوا كل ديكتاتور يتحدث عن واحد منهم شبيهاً بديكتاتور معين عرفه التاريخ الحقيقي، بحيث تأتي الشخصية الأدبية شفافة الى درجة تشي معها بمن يقف خلف الشخصية، فإن ديكتاتور ماركيز، أتى شبيهاً بعدد كبير من الديكتاتوريين في آن واحد: انه خلاصة فرانكو وصدام حسين، هتلر وموسوليني وباتيستا وموريخو، وسالازار... هو كل هؤلاء معاً، وهو كل واحد من هؤلاء في الوقت نفسه. ولكأن ماركيز شاء هنا أن يختتم السلسلة التي تتحدث بأحداث عدة عن كل أولئك القتلة الظالمين الدمويين الذين ملأوا صفحات التاريخ ظلماً وقمعاً، عبر واحد يرسم صورتهم جميعاً، لا سيما في لحظات سقوطهم المريعة. وبهذا في شكل خاص تختلف رواية"خريف البطريرك"عن كل ما سبقها وما تلاها في هذا المجال. هي ليست رواية عن ديكتاتور، بل رواية عن الديكتاتور مع"أل"التعريف. لكنها ليست هذا فقط، بل إنها تتميز بكونها رواية هزلية الى أبعد حدود الهزل. تكاد في جوهرها أن تكون عملاً صاغه شارلي شابلن انطلاقاً من تصوره لباستر كيتون وقد قيّض له أن يحكم، ثم حدث له أن فقد سلطانه. صحيح أن ثمة بأقلام كتّاب أميركا اللاتينية الآخرين صوراً لديكتاتوريين مضحكين، أو قادرين في لحظات معينة على جعلنا نضحك منهم أو عليهم، غير أن ديكتاتور"خريف البطريرك"، هو شيء آخر تماماً. إنه حاكم لا نتوقف عن الضحك منه وعليه ولو للحظة واحدة، طوال صفحات الرواية. وهذا على رغم تشاركه مع إخوانه الديكتاتوريين الآخرين في كل الجرائم والمآسي التي يتسبب بها حكمهم في أي مكان أو زمان عاشوا فيه. ومن هنا إذا كانت الرواية تمتلئ بالقتل والإحباط واليأس والظمأ الى السلطة، والطمع والرعب الدائم والنميمة والسعي الى الحماية الخارجية، ثم الوحدة المطلقة للديكتاتور، فإن هذا كله صار له، بين يدي ماركيز طعم آخر تماماً: على يدي ماركيز تحول الواقع التراجيدي الى فعل هزلي مدهش. منذ البداية، هنا، يجب أن نقول إن الديكتاتور الذي يجري الحديث عنه، هو ديكتاتور عادي من النوع الذي حكم ولا يزال يحكم في بلدان أميركا اللاتينية، كما في بلدان أخرى من العالم الثالث، ناهيك بحكمه في عدد من بلدان أوروبا الغربية، حتى أواسط القرن العشرين إسبانيا، البرتغال، اليونان، وبلدان في أوروبا الشرقية. لكنه في الوقت نفسه جنرال عجوز، له من العمر ما بين 107 سنوات و232 سنة. لماذا؟ لسنا ندري... وماركيز نفسه لا يقول لنا لماذا... لكنه، في شكل موارب، يوحي بأن هذا الديكتاتور الذي تتتابع أخباره أمام أعيننا، هو كل الديكتاتوريين مجتمعين في شخصه الكريم. إنه طاغية دموي يعيش في هذيان دائم ورهاب لا يتوقف. كما أن أوضاع بلاده المتواضعة لا تتوقف عن دفعه في اتجاه مغامرات تقع عند نقطة الفصل بين المضحك والمبكي. ومن هنا يتحول كل ما يفعله الى ما يشبه الكابوس. ويتكفل قلم ماركيز بالباقي، حيث يحول كل فعل من أفعال البطريرك الى صورة أدبية مدهشة إن لم تكن مذهلة. وتصل الأمور الى ذروتها حيث يقع الديكتاتور في غرام ملكة جمال الفقراء التي انتخبت من توّها لهذا"المنصب"، فما العمل والحسناء مانويلا سانشيز فتاة ذات شخصية قوية، والديكتاتور، في الغرام، ذو شخصية ضعيفة وعاجزة في الوقت نفسه؟ على هذا النحو تنبني أحداث"خريف البطريرك"، انطلاقاً من سؤال يبدو واضحاً أن ماركيز طرحه على نفسه وعلى أدبه طويلاً: هل يمكن شخصاً يحكم بسلطات مطلقة أن ينفذ بجلده من الفساد الذي تولده هذه السلطة؟ إن ماركيز يجعل من روايته كلها جواباً عن هذا السؤال، لا سيما منذ اللحظة التي يبدأ فيها حديثه المجازي، عن الانهيار الجسدي والعقلي للديكتاتور، والذي يتواكب مع قرب انتهاء حكمه. وهنا عند هذه النقطة قد يكون من المفيد أن نشير الى ماركيز، أكثر مما حاول أن يرسم صورة لديكتاتور، سعى الى نسف الصورة المعهودة له. ومن هنا فإن بطريركه، وبحسب دارسي ماركيز، لا وجود له"خارج متاهة العبارات والألفاظ التي تستعاد في شكل متواصل وتتكرر من دون أن تكون أي إمكانية للتحقق من دلالاتها... هذا إذا كان ماركيز قد جعل لها دلالة. ولأن للرواية هذا الطابع، سرعان ما نكتشف ونحن نقرأها اننا في صدد عمل تشتغل اللغة فيه أكثر مما يشتغل فيه أي شيء آخر. تبدو الرواية من أولها الى آخرها وكأنها جملة طويلة متواصلة الى اللانهاية، أو من جمل طويلة تتواصل مع بعضها بعضاً. وهذه الجمل تشكل، في شكل عام، خطاب البطريرك الذي يصل مباشرة الى القارئ كاشفاً بالتدريج عن وحدة الديكتاتور وتشتت أفكاره، ووجوده في آن معاً. ومع هذا، فإن الرجل باق في السلطة، بفضل دموية أدواته وخوف مساعديه منه وعليه... ثم، بخاصة، احترام شعبه له... إذ يقول لنا ماركيز هنا إن ما من ديكتاتور يمكنه أن يحكم إن لم تكن أكثرية الشعب معه، لا تنظر إليه إلا عبر صورة رسمت له وبقيت في الذاكرة والوجدان، على رغم تناقضها الكلي مع صورته الحقيقية المنهارة. ولافت هنا كيف أن ماركيز يصوّر هذا كله وبقوة، من خلال المشهد الذي تكتشف فيه جثة الديكتاتور ميتاً داخل القصر الرئاسي. إذاً، ساهم غابريال ماركيز بدوره في هذا النوع الأدبي الذي يكاد خلال العقود الأخيرة أن يكون نوعاً خاصاً بأدب أميركا اللاتينية، لكن مساهمة ماركيز، كما نرى هنا، ليست مساهمة عادية. بل لا بد من أن نشير في هذا الصدد الى أن ماركيز كتب هذه الرواية ونشرها عام 1975، أي عامين بعد سقوط حكم الوحدة الشعبية اللندي في التشيلي ليأتي الى الحكم مكانه، يومها، وبفضل خطة رسمتها ال"سي آي أي"ونفذتها، الجنرال بينوشي، الذي قد يرى كثر في بطريرك ماركيز صورة له، على رغم ان بينوشي هذا، كان صديقاً لماركيز... [email protected]