كان أحد أحلام صدام حسين أن يصبح روائياً. هذا ما أظهرته الروايتان اللتان أصدرهما تباعاً من غير أن تحملا اسمه مكتفياً بعبارة "رواية لصاحبها". لكنّ جوقة النقاد المطبّلين سرعان ما فضحت اللعبة، والايعاز كان من "الروائي الجديد" نفسه ومن جماعته. غير أن صدّام حسين الذي دخل مرحلة "الخريف" بحسب عنوان رواية غبريال غارسيا ماركيز "خريف البطريرك"، بدأ يتحوّل شخصية روائية، وأولى إطلالاته تلك حملتها رواية "عالم صدّام حسين" الصادرة حديثاً عن دار "الجمل" تحت اسم مستعار هو مهدي حيدر. تُرى هل تسرّع الكاتب المجهول مهدي حيدر في اسباغ مواصفات "الديكتاتور" على شخصية صدام حسين، أم أن الوقت حان فعلاً لرسم هذه الصورة عن "ديكتاتور" عربيّ طالما افتقدته الرواية العربية؟ تبدو الرواية جزءاً أوّل من عمل روائي قد يصبح ملحمياً، إذا شاء صاحبه أن يسلك خطى الروائيين الأميركيين اللاتينيين من أمثال ماركيز أو اليخوكاربنتيه أو ماريو فارغاس يوسّا. والرواية أصلاً لم تخلُ من بعض ملامح "الواقعية السحرية" و"الفانتازيا" اللتين وسمتا طويلاً الرواية الأميركية اللاتينية. ففي مرحلة الطفولة والمراهقة بدا جلد صدام الفتى ك"جلد التمساح" وقد نفذت حدة "الشوك" الذي نشأ بينه الى عظمه ولحمه. ناهيك بحال صدام النفسية أو المزاجية في الرواية، وهي تشبه حال الديكتاتور النفسية بامتياز، علاوة على ملكيّة الديكتاتور الواسعة وغير المحدودة والتي تشمل الأرض والوطن والحزب... ولم يغفل الروائي المجهول بعضاً من حياة الديكتاتور الجنسية عبر علاقته الحقيقية أو المتخيّلة بإحدى النسوة اليونانيات... إن سقط صدّام حسين في الحرب المزمعة، - وهذا ما لا علاقة لنا به - سيكون الجزء الثاني من الرواية أشدّ إثارة وفضحاً وربما هتكاً. هناك الكثير مما لم يُكشف من أسرار صدام ومن حكاياته وطرائفه وعاداته. فالسيرة الشخصية التي تكتبها الرواية راسمة حركة "صعود" صدام، لم تتناول كلّ المحطّات والتفاصيل والوقائع و"الظواهر" التي تحفل بها الحياة المعلنة لزعيم حزب البعث العراقي. وليس تناول حركة "الصعود" هذه عبر مسلك بطلها وانتقاله من تكريت الى دمشق فالقاهرة فبغداد... إلا معالجة لما تبدّى من السيرة الصاخبة لزعيم اجتمعت فيه الواقعية والغرائبيّة كما لم تجتمع في أي زعيم آخر. وعبر هذه السيرة سيظهر الحزب والحكم وحركة الانقلابات وآثار ميشال عفلق... والسجين سينقلب سجّاناً وسيمارس لعبة السلطة بطباع حادّة ومتقلّبة. لعلّ اللقطة الأولى التي يستهلّ بها الكاتب المجهول روايته تذكّر للفور بصورة "الديكتاتور" كما تجلّت في بعض الأعمال الروائية: صدام حسين، صبيحة 16 كانون الثاني يناير 1991 نائم في مكتبه ببذلة كاكية مثقلة بالنياشين وبحذاء عسكري وعلى وسطه حزام من جلد يتدلى منه مسدّس... كانت البارجات الأميركية باشرت قصف بغداد والقصور الرئاسية. لكنّ صدّام حسين القابع في ملجأ نووي تحت الأرض سيستعيد ماضيه في حال من النعاس الخفيف، بدءاً من "الزمن البعيد الذي سبق خروجه الثاني من بيت أمّه في قرية شويش..." حتى اللحظة "الراهنة"، وكان أصبح رئيس الوزراء ورئيس مجلس قيادة الثورة وأمين عام القيادة القطرية لحزب البعث والقائد الأعلى للقوات المسلّحة منذ 1979. قد يكون الروائي المجهول تأخّر في استنهاض صورة "الديكتاتور" العربي على رغم تعجّله في إعلان "خريف" صدام حسين. فالواقعية السحريّة التي بلغت أوجها في الرواية الأميركية اللاتينية في السبعينات باتت من "عيون" التراث الروائي المعاصر، ويجري اليوم كلام كثير عن موتها وتجاوزها في أميركا اللاتينية نفسها. لكنّه "الواقع" العربيّ المحفوف بالأسلاك الشائكة، الخفية والظاهرة، جعل الروائيين يبتعدون عن مثل هذه الشخصيات المتسلّطة، القاسية والدموية، أو يتحاشون تسميتها إن هم تطرّقوا اليها وغالباً بالترميز والمجاز والكناية. لكنّ شخصية روائية مثل صدام حسين وفق ما تبرزها الرواية، تظلّ تملك خصائص فريدة جامعة بين ملامح الديكتاتور الأميركي اللاتيني والديكتاتور التوتاليتاري الذي فضحه برهبة كبيرة جورج أورويل في رائعته "1984" والديكتاتور النازي الذي تصدّى له بريخت في مسرحيته الشهيرة "صعود أرتورو أوي"... كم ستذكّر شخصية صدام حسين الروائية بشخصيات لا تنسى: البطريرك أو الجنرال العجوز ولكن المرعب والهاذي والمشكّك في رواية ماركيز "خريف البطريرك"، الكولونيل أوريانو بونديا، دكتاتور ماكوندو في "مئة عام من العزلة"، بيغ برازر الأخ الأكبر أو الرئيس الأعلى للحزب بشاربيه الكثيفين في رواية "1984" وكان رفع شعاره الفذ: "الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوّة"، أو أرتورو أوي الدكتاتور النازي المتفوّق الذي تحيط به عصابة من الأشرار... قد تحتاج رواية "عالم صدام حسين" الى قراءة نقدية خاصّة، تصنّفها وتدرسها وتلقي الضوء على تقنيّتها ولغتها... لكنّ أكثر ما يلفت فيها كونها أوّل رواية عن "ديكتاتور" عربي، يعرفه القراء جيداً ويعرفون أخباره الطريفة بل والغريبة. إنها أوّل رواية عن ديكتاتور "من عندنا"، كما يقال، تقدّمه كما هو بشحمه ولحمه، بأسراره وفضائحه... وقد لا يكفي وصف مهدي حيدر بالجرأة، وان لم يعلن اسمه الحقيقي، فروايته، عطفاً على جرأتها، تؤسس أدباً روائياً لا عهد لنا به: أدب الدكتاتور العربي.