قد لا يكون صحيحاً أن الأدب الذي يتحدث عن الحكام الطغاة (الديكتاتوريين) أدب نما وازدهر وعرف أعظم أعماله في أميركا اللاتينية، ومع هذا يمكن القول ان هذا النوع من الأدب له خصوصيته الكبرى في تلك المنطقة من العالم وبالتحديد لأسباب عدة واضحة أبرزها ان بلدان أميركا اللاتينية عرفت منذ بداياتها، وحتى اليوم أردأ أنواع الطغاة، يمينيين أو يساريين كانوا، وغالباً ما تبدّوا شعبويين الى درجة لا تطاق. فإذا أضفنا الى هذا ان قدرة الأدب الأميركي اللاتيني خلال الثلث الأخير من القرن العشرين قد تزامنت مع حراك متواصل محول قضية الدكتاتورية والديموقراطية في عدد لا بأس به من بلدان تلك المنطقة، تصبح لدينا خلفية جيدة لتفسير ازدهار هذه النزعة الأدبية. ناهيك بأن نطق عدد كبير من بلدان تلك القارة بلغة واحدة هي الإسبانية، جعل من الصعب على الرقابات مهما استفحل أمرها وشرها، ان تحول دون ظهور تلك الأعمال وانتشارها. ومن هنا كان طبيعياً لكل أديب كبير من أدباء أميركا اللاتينية، أن ينتج ذات لحظة في مساره، قطعة أدبية مدهشة تدور حول ديكتاتور ما، عرفه بلده أو بلدان أخرى. وهكذا قرأنا، مثلاً، «خريف البطريرك» و «الجنرال في متاهته» لغابريال غارسيا ماركيز و «أنا الأعلى» لرواباستوس و «السيد الرئيس» لآستورياس و «اللجوء الى المنهج» لأليخو كاربانتييه، بين أعمال أخرى. أما الفائز لهذا العام بجائزة نوبل الأدبية ماريو بارغاس يوزا، فإن له عدداً من أعمال تتناول، في شكل أو في آخر، قضية الديكتاتورية، لا شك في أن أفضلها وأعمقها وأكثرها انتماء الى قضية الأدب، كما الى قضية السياسة، روايته «عرس التيس» التي تعتبر من أحدث أعماله، إذ انها صدرت العام 2000 قبل أن تترجم بسرعة الى الكثير من اللغات وتصبح، عالمياً، واحدة من أبرز روايات «أدب الديكتاتورية». مثلها في هذا مثل عدد من روايات هذا الأدب في أميركا اللاتينية، تنطلق رواية «عرس التيس» من أحداث روائية حقيقية، سرعان ما يدمج فيها الكاتب أحداثاً وشخصيات متخيلة. أما الخلفية الحقيقية فتتعلق باغتيال ديكتاتور جمهورية الدومينيكان، الشعبوي، رافائيل ليونيداس تراخيلو، الذي انتهت حياته كما انتهى حكمه الذي دام 31 سنة، في عام 1961، بفعل مؤامرة حيكت ضده وأدت الى التخلص منه. غير ان يوزا لا يعالج هذا الحدث التاريخي المعروف في شكل مباشر، بل مواربة، وتحديداً من خلال محامية أميركية من أصل دومينيكاني تدعى أورانيا كابرال، تعود الى وطنها الأم بعد ثلث قرن من مبارحتها له، حيث استقرت طوال تلك الحقبة في الولاياتالمتحدة حيث عاشت (منذ كانت في الرابعة عشرة) وتعلمت ودرست المحاماة، من دون أن تقرر العودة الى الوطن... وبسرعة هنا سنعرف لماذا: فهي كانت الابنة الصبية لواحد من كبار رجال الحكم المحيطين بتراخيلو والمخلصين له. أما اليوم، فإن أورانيا تعود الى معايشة أبيها المحتضر بعد كل تلك السنوات... ولكن بخاصة كي تطرح عليه عدداً من الأسئلة التي لا شك كانت تشغل بالها منذ زمن بعيد. وتتعلق بالديكتاتور الراحل وبحياتها هي العائلية وأكثر من هذا: بجبن أبيها أمام سطوة الديكتاتور... جبنه الى درجة انه لم يتمكن من الدفاع عن ابنته أمام فساد تراخيلو، بل آثر أن يسكت عما حدث لها، وظل ساكتاً وهي في الغربة تعيش حياتها وجرحها الدائم. وسنكتشف في النهاية ان محاولة اغلاق هذا الجرح، هي ما أتى بأورانيا اليوم الى هذا البلد بعد كل تلك السنوات. على هذا النحو، وبقدرته الروائية الخارقة، التي تضعه في الصف الأول بين كبار كتّاب جيله، تمكن يوزا من أن يربط حكاية الديكتاتور بحكاية المحامية النيويوركية... أي أن يربط حكاية عائلية بحكاية سلطة ووطن. وهو كي يفعل هذا، جعل الرواية، أساساً، ثلاثية الأبعاد، حيث انه، في لعبة كرّ وفرّ بين الماضي والحاضر (رآها نقاد كثر صعبة بالنسبة الى القارئ إلا إذا جازف بأن يقرأ الرواية أكثر من مرة). فنحن هنا أمام حكاية المحامية أورانيا ورغبتها في استنطاق أبيها وإخراجه من صمته. ونحن أيضاً أمام حكاية تنتمي الى الماضي عند الديكتاتور وأيامه الأخيرة، تروى لنا خارج نطاق ما عاشته المحامية، طفلة. ثم نحن، في بلد ثالث، أمام كواليس السلطة، في قلب رجال هذه السلطة المتآمرين الذين رتبوا نهاية تراخيلو بدقة مدهشة. وهذه الأبعاد الثلاثة في الرواية تتداخل على مدى صفحاتها (نحو 600 صفحة) في شكل أخاذ، لا يترك للقارئ فرصة لالتقاط أنفاسه، على رغم صعوبة الانتقال من زمن الى آخر. وإذا كانت حكاية أورانيا تستوقف القارئ وتثير تعاطفه حقاً، وإذا كانت حكاية المتآمرين، في شكسبيريتها المدهشة تذكر بلحظات كبرى في التاريخ وتفتح الكثير من الآفاق لاستقراء الوجه الخفي لذلك التاريخ والتساؤل حقاً، عما يمكن ان يكون - دائماً بالتأكيد - في خلفية الأحداث الكبرى، فإن الجانب الأقوى في الرواية يظل، بكل تأكيد، الجانب المتعلق بالبعد الثالث (حياة الديكتاتور وشخصيته)، حيث يقدم يوزا هنا، مساهمة اضافية وقوية الى حد كبير في رسم شخصية هذا الديكتاتور، سيكولوجياً وسلوكياً... وصفاً يكاد ينطبق على العدد الأكبر من الديكتاتوريين الذين عرفهم التاريخ (من كاليغولا ونيرون الى صدام حسين وتشاوشسكو وموسوليني وهتلر وصولاً الى أحدثهم وأقلهم درامية بالمعنى الإبداعي للكلمة: معمر القذافي). فالحال اننا هنا، إذا نحينا اسم تراخيلو جانباً، وتمعنّا في الصفحات التي يكرسها يوزا في «عرس التيس» لهذا الطاغية التراجيدي، هذا الحاكم الذي يمضي وقته كله - تقريباً - في السرير، وغالباً مع الناس حتى وإن كنا سرعان ما نكتشف أنه مريض وعاجز، من دون أن يردعه هذا عن ارسال وزرائه في مهمات في الخارج كي يغازل نساءهم خلال غيابه. وهو الذي يلقب، تودداً - طبعاً - بالتيس وبفاعل الخير وبأبي الأمة، يعتقد دائماً انه إنما يحكم باسم سلطة إلهية أعطيت له، ما أهله ليكون عرّاباً لمئات الأطفال في كل أسبوع! وهو - عادة - ودود مع أعوانه وأتباعه، أما إذا أخطأ واحد منهم، فإن أسماك القرش ستجده وجبة طيبة لها... ولئن كان أقرب معاونيه، يقرأون الصحف بلهفة عند كل صباح، فما هذا إلا لأن سيدهم اعتاد أن يعلن عقابه لهم على صفحات الصحف إن غضب عليهم، من دون أن يكونوا على علم مسبق بما ينتظرهم. والحقيقة ان هذا كله يروى لنا على صفحات الرواية، انما انطلاقاً من رحلة أورانيا وأبيها، في الذاكرة وفي التاريخ - المزيج هنا بين الحقيقي والمتخيل -، وفي هذا الإطار تبدو النقطة الأهم في الرواية - من الناحية التاريخية على الأقل - ما يوصف لنا من ان ما سمح لتراخيلو بأن يكون ديكتاتوراً، انما كان تحويل أعوانه له. الى نصف إله، ما أمن له منذ سنوات حكمه الأولى، تأييداً شعبياً كاسحاً، تحول مع الزمن الى حماية له، ويتطابق هذا التفسير التاريخي، مع واقع لم يعد في امكان العين أن تخطئه: واقع ان الديكتاتور لا يبقى لزمن طويل، إلا بفضل جماهير - مخدوعة ومضللة - تحميه كل تلك الفترة، وحتى أيامه الأخيرة حيث تروح متخلية عنه بالتدريج لأسباب عدة... فيكون الديكتاتور أول المندهشين من انقلاب «الجمهور». وهذا البعد يتضح في «عرس التيس» حتى وإن كان ما لدينا هنا مؤامرة كواليس في القصر هي التي تؤدي الى التخلص من هذا الديكتاتور. مهما يكن من أمر، تعتبر رواية «عريس التيس» للكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوزا (المولود عام 1936) واحدة من أجمل وأقوى أعمال هذا الأديب الذي تميز أسلوبه بالتركيب الخلاّق، وبحس السخرية البادي، هو الذي بدأ حياته صحافياً ومؤلفاً للتمثيليات الإذاعية، في وطنه كما في إسبانيا وفرنسا، وانطبعت كتابته ببعد سياسي واضح، مستقى من تاريخ بلده (البيرو) كما في تاريخ بلدان أميركية لاتينية أخرى، ناهيك بانطباع بعضها بإدخاله سيرته الشخصية وذكرياته (كما في «العمة جوليا والكاتب»، عن زواجه مرة أولى بامرأة تكبره بسنوات عدة، أو «المدينة والكلاب» عن دراسته في الكلية العسكرية)، من دون أن ننسى روايات أخرى كبيرة له اقتبسها، هذا الكاتب الذي خاض غمار السياسة - ليبرالياً - في بلده بترشحه ذات مرة للرئاسة، من أحداث تاريخية كبرى (كما في «حرب نهاية العالم» و «محاوثة في الكاتدرائية»)... [email protected]