إذا أردنا الاستغناء عن تسمية"جيل"، يمكن النظر، الآن، إلى حركة شعرية جديدة في فلسطين، أنجبت عدداً من أصوات راحت"تصدح"، باستمرار، في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية والدواوين المشتركة أو المستقلّة المنشورة لدى دور نشر فلسطينية وعربية. وهذا ما دفع"بيت الشعر"الفلسطيني الى تبني هذه الحركة بإصدار كتب ضمّت، في معظمها، عشرات الأسماء الشابة، في مجلة"أقواس"و في كتاب"خارج سياق النهر"الذي أعده وقدمه الشاعر مراد السوداني. وقام كاتب هذه السطور، أخيراً، بإعداد وتقديم ملف"نشرته مجلة"الحركة الشعرية"التي يصدرها الشاعر اللبناني قصير عفيف في المكسيك. كان عام 2000 بمثابة أوّل مرآة لتجلي المقترحات الجمالية الجديدة. وبين هذه الأصوات الناضجة يمكن تسمية شاعرين هما: بشير شلش مواليد 1978 في عرّابة البطوف، حيفا، ويوسف القدرة مواليد 1982 في خان يونس، جنوب قطاع غزة. معالجات المكان والزمان الفلسطينيين في قصائد هذين الشاعرين، هي امتداد لجماليات الصراع بين البنية والحدث في الشعر الفلسطيني، عموماً. في قصيدة بعنوان"مقهى في رام الله"يكتب بشير شلش:"اسمي،/ صوتي،/ أصدقائي البعيدونَ،/ ذاكرتي، وموتي/ في المرايا مغسولاً بالظلّ/ وبأطياف صُوَرْ./ قد أستعيدهم جميعاً/ لو أنهي هذه القصيدة وأغادر/ هذا المقهى الآن"/ قبل أن يتجّدد القصف". نلاحظ ممّا سبق أنه، في وضع كهذا، يَضع الشاعر نفسَه، ويَضعنا معه في غيابٍ لم يكتمل، أي أمام إمكان أن يستعيد أصدقاءه جميعاً. معنى ذلك أنّ الذين يقطنون الغياب يقطنون الحضور، بما هم الآن أولويات الشاعر. إنّ ثمة قرابات لا تُنسى، ولا تُهمل، بين هؤلاء جميعاً. ففي هذه اللحظة هم مناطون بحقّ العودة. مناطون كامتلاءات، كقرابات إنسانية ووطنية، في هُوية كبيرة تستدعي سلامة أو اكتمال حضورهم. وذلك إذا ما أراد الشاعر أن"يُنهي القصيدة ويُغادر هذا المقهى الآن قبل أن يتجدّد القصف". ولعل العلاقة المحدَّدة والمجسَّدة بين الشاعر والمقهى هي هذه البنية"الحمائية"الجمالية الحاصلة في"قبل أن". هذا إذا رغبنا في الحديث عن جمالية المكان، وعلاقتها بالقصيدة. أما العلاقة بين الشاعر والمقهى من جهة، والخارج من جهة ثانية"فيصيبها الحدث في الصميم عند قيام الشاعر بفعل المغادرة الى الخارج"بعد أن"يتجدّد القصف. فهذا الحدث هو جزء مقتطع من لحظةٍ تُراكِمُ، بدورها، الثواني وتضغطها، في شكل خارجيّ صاروخ يدمّر ويفتت بنيةَ الاستعادة، بمغادرة المكان. وبهذا يكون الشاعر طرد أسوأ الاحتمالات، ألا وهو قصف المقهى فوقه! في نهاية القصيدة إشارة الى موتِ التجاوز على يد من ينهي كتابة حياته ويخرج من المقهى. على أنّ الخوف من إنهاء القصيدة، هنا، لا يقتصر على المعنى الإجرائي"بل يتضمن، في معنى المعنى، القلقَ من تراجع قوّة الشعر ومجازاته أمام طغيان صورة الواقع بعناصرها ومكوناتها وحبكتها الدرامية: الاسم، الصوت، الأصدقاء، الذاكرة، الموت... طغيان كهذا يخرج الشعر الفلسطيني، مجدداً، من جمالياته، ويُحاصره في محنته المعهودة المرصودة عبر مرآة الحدث المباشرة التي لا تَسمح للظلال بمنحنا النسيان والسلوى"نسيان الصور الحقيقية الموضوعية الفاجعة. لكنّ الشعر، على رغم ذلك يستعيد قوته، ويمنحنا غناءَ للحياة، حيث المرايا تجعل من صور الحدث هدفاً للبنية الجمالية، وحيث البراءة والغسل والتطهّر وليس بالماء، ليس بالنار، ولكن بالظلّ وبأطياف الغائبين، الحاضرين فينا. مُفارقة أخرى، نقبض عليها بين فعل مغادرةِ مقهىً في رام الله عند بشير شلش، وفعل الذهاب للنوم، في غزة، عند يوسف القدرة، في نصّ لهذا الأخير بعنوان"شكل الو... ق... ت/ الإنشاد للر..و..ح؟"، وفيه يسأل:"متى يكتمل النصّ كي أذهب إلى النوم؟". هذا الذهابُ بصفته ذهاباً إلى الخلاص النوم، يقترنَ بسؤال مستقبلي عن اكتمال النصّ. وعلى خلاف ذلك، فإنّ فعل المغادرة، عند بشير شلش، يقترن باحتمال عودة الجماعة إلى البنية. ونلاحظ أنّ البنية عند يوسف القدرة، ذات امتداد أفقي رجائي، لكونها منوطة بإجابة منتظرة عن سؤال اكتمال النصّ. بينما تعود البنية عند بشير شلش بنية عائدة إلى ماضي الحياة العامرة بالاسم والصوت والأصدقاء البعيدين. وما استعادة الشاعر شلش، هنا، لذاكرته وموته إلا استعادةٌ للحياة ونجاة بتوقيع القصيدة والمغادرة"قبل أن"يتجدّدَ القصف. أما الحدث الذي سيبقي على الفراغ في البنية الناكصة عند الشاعر الغزاوي يوسف القدرة، فهو عدم اكتمال النصّ، أيّ عدم الوصول إلى البنية، عدم الامتلاء، أي مفارقة الخلاص. وهنا لا يسير الزمان - مستغرقاً هذه اللحظة التاريخية - إلى صيرورة آمنة. نشر في العدد: 16698 ت.م: 22-12-2008 ص: 31 ط: الرياض