أرسل إليَّ بعض الأصدقاء قصاصات من فلسطينالمحتلة تضمنت ردوداً على مقالة لي من جزءين نشرتها "الحياة" بتاريخ 7 و8 أيلول/سبتمبر الجاري تحت عنوان "شعراء من فلسطين الجديدة شعر الأشخاص بعد الأدوار والأرواح العارية بعد الأبطال الاجتماعيين"، وأخذتها عنها رصحيفة "الأيام" الفلسطينية فأعادت نشرها يومي 11 و12. لن أقوم، هنا، في هذه الكلمة بالرّد على الردود ، ما دام القارىء العربي خارج فلسطين لم يطلع عليها، وإنما سأكتفي، فقط، بإبداء ملاحظات على واحد من تلك الردود، ليس لكونه رداً يُعتدُّ به، وإنما لأنه يصلح أن يكون نموذجاً دالاً على مسألتين، أولا: الذعر الذي انتشر في أوصال ركيكي المواهب من الشعراء الفلسطينيين، والعشائريين من سدنة الكتابة المحافظة، بسبب ظهور أصوات شعرية جديدة في فلسطين، وثانياً لأسباب سوسيولوجية مرضية تحتاج إلى وقفة متأملة. صاحب الرد هو د. فاروق مواسي ومقاله منشور في صحيفة "الحياة" الفلسطينية يوم 16 الجاري تحت عنوان صارخ هو "التطاول على شعرنا الفلسطيني". وإذا كانت الظاهرة الشعرية التي يشكلها، اليوم، شعراء من أمثال غادة شافعي ووليد الشيخ وزملائهما في الداخل، وجهاد هديب وزملائه في الخارج، هي الحلقة الأجد زمنياً في المغامرة الجمالية الفلسطينية في الشعر وهو ما كرّستُ من أجله مقالتي فإن هذه الظاهرة في فلسطين لا تبدو لي مفصولة، أو منقطعة عن أبهى ما في المنجز الشعري العربي الحديث بدءاً من إنجازات محمد الماغوط وأنسي الحاج ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور وسميح القاسم وسعدي يوسف ومحمد عفيفي مطر، وشوقي أبي شقرا وأدونيس، مروراً بحسب الشيخ جعفر وسليم بركات وبول شاوول ونزيه أبو عفش ووديع سعادة وعباس بيضون وقاسم حداد وطه محمد علي وزكريا محمد وغسان زقطان وحلمي سالم، وفريد البرغوتي ومحمد القيسي وأمجد ناصر ومحمد حسيب القاضي، وسركون بولص، ووليد خازندار، وصولاً إلى تجارب شعرية بدأنامن خلال مجلة "الشعراء" نتعرف على منجزاتها وشعرائها من أمثال حسين جميل البرغوثي، والمتوكّل طه، وحمزة غنايم، وغيرهم ممن لم يتوقفوا عن تطوير أدائهم الشعري وفهمهم للشعر. والشيء المؤسف مع مواسي الذي يتهم مقالتي بالاستعلائية من جهة والتهاون بحق الشّعر من جهة أخرى، أننا سنذكّره، على سبيل تعميم الفائدة، بأسماء شعرية أخرى من فلسطين نعتبر منذ الآن أنها بدأت تشقُّ طريقها لتكون جزءاً أساسياً من المشهد الشعري الجديد في فلسطين، من دون أن يعني ذكرها إغلاقاً لحلقة الأسماء، التي ستظل مفتوحة لاستقبال أسماء جديدة. استنكر السيد مواسي على ثلاثة من أفضل شعراء بلاده هم زكريا محمد ووليد خازندار وغسان زقطان أن يكونوا شعراء معتبراً شعرهم من الزوان الذي يخالط القمح. ولا يختلف اثنان على أن مثل هذا الكلام، هو من السخف إلى درجة أن أحداً لن يسمعه، ولا يحتاج، بالتالي، إلى إضاعة وقت لإثبات فساده، فهو حكم ينم ُّعن جهل كبير بالحركة الشعرية، وجهل بالشعر وصناعته. وعلى رغم أن الغاية من هذه المقالة هي شيء آخر، تماماً، غير إثبات شعرية الشعر " فإن علينا أن نشير إلى أن ملامح الصراع الثقافي بين القديم والجديد في فلسطين اليوم تنذر بضجة شبيهة بتلك التي أثارتها الكتابة الشعرية الجديدة في مصر مطلع التسعينات. والفضل في الكشف عما يحدث الآن في فلسطين، شعرياً، يعود، بطبيعة الحال، إلى الجهود المبدعة والمخلصة لكل المثقفين والمبدعين الفلسطينيين من دون تمييز بين عائد إلى وطنه بعد كارثة أوسلو وبين مقيم فيه خلال مختلف الكوارث. ويتشارك في صناعة اللحظة الثقافية الجديدة في فلسطين المنبر الذي يديره سميح القاسم كل العرب والمنبر الذي يديره محمود درويش الكرمل ويساعده في تحريره زكريا محمد، والمنبر الذي يديره الشاعران غسان زقطان والمتوكّل طه الشعراء. إنما علينا أن ننوه، بصورة خاصة، بجهود بيت الشعر الفلسطيني والشاعرين العاملين فيه طه وزقطان، لكونهما أدركا بحسّهما الإبداعي الذكي ورؤيتهما الشعرية المنفتحة، أن هناك شيئاً جديداً يحدث في الشعر، وأنهما ما داما ينتميان إلى فكرة المستقبل، فإن عليهما أن يفسحا في المجال أما أصوات المستقبل بعيداً عن الأبوية المقيتة، وقريباً من روح الصداقة التي لا تتعالى على اليفاعة، وإنما تجد فيها دماً جديداً ونضارة منتظرة. فاليفاعة اليوم، ربما تعد بنضج لانطير لجماله الفني والتعبيري. فلسطين ليست حجارة وأشجار زيتون وحسب، إنها، في محطات من الأمل، أرواح جديدة أيضاً، وعلينا، نحن الذين وجدنا من نصت إلينا ذات يوم، أن ننصت، بدورنا، إلى هذه الأرواح وما تحمله إلى عالمها من توق إلى المشاركة في الخلق والابداع والحرّية. من الأسماء الجديدة التي وصلني شعرها عن طريق مراسلات شخصية مع بعض الشعراء، والتي أستغرب أن يفوت السيد مواسي مهاجمتها: مراد السوداني، محمد حلمي الريشة، غادة شافعي، أنس العيلة، علاء الدين كاتبة، كفاح الفني، سميّة عبدالرزاق السوسي، بشير شلش، طارق الكرمي، نوال نفّاع. من سوء حظ مواسي أن هذه الأصوات، أيضاً، تنتمي إلى سلالة "الأرواح الجديدة" التي كتبتُ عنها بحماسة أعتز بها، وقد علّمنا تاريخ الشعر أن لا أحد ولا شيء يمكن أن يقف في طريق المواهب القوية، وبين هذه الأسماء المنشورة هنا مواهب حقيقية ستثبتُ للزمن جدارتها، إلى جانب أسماء شعرية أخرى لشعراء إن نجهل بوجودهم اليوم، فسنسمع بهم غداً، وأرجو أن لا يؤخذ ذكر الأسماء هنا على أنه ثبتٌ، فهو على سبيل تذكير الذاكرة ببعض من حضر من خلال نصه الشعري، ولا سيما إثر المجموعة المفاجئة التي أصدرها "بيتُ الشّعر الفلسطيني" تحت عنوان "ضيوف النار الدائمون". والسلسلة الشعرية التي أعادت إدراج بعض التجارب الشعرية الفلسطينية في سياق جمالي متّصل. وحسناً فعل الفاعلون، بأن جمعوا بين حسين جميل البرغوثي وجهاد هديب، وغادة الشافعي ومحمد حسيب القاضي والمتوكل طه ووليد الشيخ، فهذه الأصوات لا يمكن النظر إليها إلا على أنها تمثّلُ تجارب وحلقات متّصلة. وحبذا لو أقدم بيت الشعر على الدفع بهذا الخيار أبعد بحيث تتضمّن السلسلة، باستمرار مختارات عربية كتلك التي نشرت في السلسلة نفسها للشاعر الأردني أمجد ناصر، بحيث لا تبقى هذه الخطوة يتيمة، فيجري تقديم أفضل الشعراء العرب الجدد من خلال قصائد مختارة، وهو ما من شأنه أن يعوّض بعض الانقطاع الذي تسبب به وضع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. بطبيعة الحال نحن لا نستطيع أن نحكم، منذ الآن، على درجة شاعرية كل من هؤلاء الشعراء والشاعرات الجدد. لكننا في الوقت نفسه، لا نستطيع إلا أن نفسح في المجال أمام شعرهم لينشر ويتداول، ومن ثم لكل تجربة مسار ومصير. يجب أن لا يفوتني قبل الخروج في الموضوع أن أسجّل، هنا، استنكاري الشديد لعلاقة السيد مواسي وتحفظي على سلوك المحرر الذي نشر مقالته السيّئة، لكونه فتح بصورة لم يسبق لها مثيل قوسين داخل تلك المقالة واصفاً اثنين من شعراء بلاده هما زكريا محمد وغسان زقطان بأنهما من العائدين في محاولة منه لإثارة نعرة مقيتة آمل أن لا تكون بدأت تطلّ برأسها في المجتمع الفلسطيني المتشكّل بعد أوسلو، وإلا كانت وباء جديداً ينضاف إلى الأوبئة المتسللة إلى بدن الكيان الثقافي الفلسطيني، على الفلسطينيين محاربته بأمصال فكرية ومعرفية، وبقوة روحية طالما تمتّْع بها الفلسطينيون. هدف مواسي بخطابه البذيء هذا ليس التشكيك بقيمة شعر هذين الشاعرين فهذا قد يكون من حقه وإنما الطعن في حقهما بممارسة الوظيفة الثقافية التي يمارسانها، وبحقهما في التساوي الاجتماعي مع المقيمين، فهما حسب تصنيفه لشعبه يقعان في خانة "العائدين الذين تسلّموا حال وصولهم مناصب قيادية رفيعة بقدرة قادر"!. ولنلاحظ هنا كيف أن السيد مواسي لم يستعمل تعبير حال عودتهما لأن حق العودة يعني من جملة ما يعنيه، بداهة، الحصول على عمل ومسكن وطبابة، وممارسة النشاط الاجتماعي. وهو ما لا يستحقه هذان الشاعران الفلسطينيان في نظر السيد مواسي لكونهما اثنين من الغزاة الخارجيين الواصلين إلى الغنيمة فوراً! فأصحاب الحق يعودون، ويستعيدون ما كان لهم من حقوق، لكن هذين العائدين لا ينبغي أن تكتمل عودتهما فهما من الغزاة الذين يصلون ليسطوا على ما ليس لهم من حقوق. نكاد نفهم من خطاب السيّد مواسي أن الشاعرين زكريا محمد وغسان زقطان وأضرابهما من العائدين هم أشخاص دخلاء لا يملكون حق العودة! وماذا، إذن، لو جاء واحدٌ وقلب خطاب السيد مواسي على رأسه هو مستعملاً منطقه، هل نقبل، إذ ذاك، أن يقال له ما شأنك بالفلسطينيين مادمت، يامواسي تحمل الجنسية الإسرائيلية؟ بماذا يبشر السيد مواسي قرّاءه، أبحرب أهلية بين المقيمين والعائدين؟ ربما تكون هناك استئثارات بالسلطة والمناصب والامتيازات وأناس لا يستحقون مواقعهم في الكيان الفلسطيني الجديد. لكن، بالتأكيد، لا يمكن اعتبار زكريا محمد وغسان زقطان من بين هؤلاء الذين لا يستحقون مواقعهم. وعلى العكس من ذلك لابد من النظر إليهما على أنهما من الكادرات التي تبدع في المواقع التي تشغلها، بصرف النظر عن تقييمنا للشروط التي تحيط بعملهما. لا أحد، على الأرجح، يقبل أن يدرج على طريقة مواسي في حماقته المؤدية إلى استنكار حق المواطنة على اثنين من أبناء شعبه عانيا من اللجوء كما عانت بقية الفلسطينيين، أكانوا تحت الاحتلال أو في المنافي البعيدة والقريبة، فكيف إذا كانا شاعرين وشعرهما العسير على موهبة مواسي حافل بالحنين إلى أمكنة الطفولة في فلسطين الأم؟! أيضاً، وأخيراً، لن نسمح لأنفسنا بأن نردّ خطاب مواسي إلى ضعف في وطنيته، وإنما إلى فقر في موهبته وحسب، فهو لابد اضطهد من قبل المحتلين الاسرائيليين واضطهدت عائلته كما هو الحال بالنسبة إلى سائر أبناء شعبه منذ نكبة 1948ومذابحها وحتى مذبحة قانا في النصف الثاني من التسعينات، مروراً بطبيعة الحال بمذبحة صبرا وشاتيلا التي كنتُ أحد الذين عاشوا أجواءها الدامية عن قرب بعدما ودّعتُ إلى إلى المنافي الأبعد كل من الشاعرين زكريا محمد وغسان زقطان في المراكب نفسها التي حملت معين بسيسو ومحمود درويش، وعزالدين المناصرة، وأمجد ناصر، وسليم بركات الكردي الذي اقتسم على الورق مع محمود درويش لخمس عشرة سنة على التوالي وطنا من الكلمات. مرّة أخرى، وبالحماسة نفسها: تحية للصوت الشعري الفلسطيني الجديد، ولليفاعة التي يجدر بها أن تنتمي، باستمرار، إلى فكرة المغامرة المقلقة، ولا ينتقص من قيمة هذا الشعر أن يكون مقلقاً، أو أن يخاف منه البعض ممن هم تحت الاحتلال أكثر من خوفهم من الاحتلال نفسه!