"الأزمة المالية"... كلمتان مخيفتان اقتحمتا قاموس الشباب الروسيين منذ مطلع الخريف. في البداية، كان لهما وقع عنيف على المضاربين في البورصات. إنهم رجال أعمال بارزين تراوح فئاتهم العمرية بين الثلاثينات والأربعينات، كثير منهم جربوا، ربما للمرة الأولى في حياتهم، نقالات المرضى. "أكاد لا أتصل بأحد من معارفي إلا وأجده في المستشفى بسبب تعرضه لذبحة قلبية أو هزة عصبية عنيفة"قالت ماريا في بداية الخريف، عندما بدأت الأسواق تتعرض لنكسات حادة. وماريا تنتمي إلى ما يعرف ب"النخبة" في موسكو، وبين أصدقائها كثير من رجال الأعمال الناجحين، وأصحاب الشركات المتوسطة والكبيرة. بعد ذلك، بدأت معاناة شرائح الطبقات الوسطى، الذين تبدد الجزء الأعظم من ثرواتهم بسبب التذبذبات الحادة في أسعار العملات، خصوصاً الروبل مقابل الدولار واليورو.على رغم أن البعض، مثل أوليغ 35 سنة تمكن من تحقيق مكاسب من خلال"اللعب"على تأرجحات السوق، فهو كسب في يوم واحد خمسة آلاف دولار. وهذا شكل بالنسبة إليه خبراً طيباً، مع أن اللوحة القاتمة لم تتغير إجمالاً، بالنسبة إليه أو إلى الآخرين. أسوأ ما في الأمر، أن أبناء الطبقات المتوسطة، باتوا يخسرون مع ثرواتهم شيئاً مهماً كسبوه بصعوبة في السنوات الأخيرة، وهو الثقة بغد أفضل. لكن، كل هذا كما اتضح لاحقاً لم يكن إلا بداية المشكلة.إذ على رغم تنامي حال الإحباط عند كثيرين بسبب تدني الرواتب مع تأثرها بفوارق تصريف الروبل مقابل الدولار واليورو، لكنها الرواتب على الأقل كانت مضمونة. بعد ذلك بدأت الكارثة الكبرى... عمليات التسريح من الوظائف. ضربت الأزمة بعنف أوساط الشباب، خصوصاً أولئك الذين أنهوا تحصيلهم العلمي قبل فترة وجيزة، وأيضاً الفئات التي تسبق مراحلها العمرية بقليل والمقبلين على التقاعد الذين باتوا ضمن ما يعرف باسم"المجموعات المهددة"التي تتصدر لوائح التقليص من العمل. أسوأ الناس حظاً، هم الذين أنهوا تحصيلهم العلمي العالي في هذا العام، وكانت الآمال تداعبهم في دخول الحياة العملية من أوسع أبوابها، بعدما تركوا هموم الامتحانات خلفهم. جاءت الأزمة لتطيح أحلامهم. آنا 22سنة حصلت على بعض الوظائف بين الحين والآخر خلال فترة دراستها، وفتحت أمامها فرص طيبة للعمل، لكنها كانت تقول:"لا أريد الانشغال عن الدراسة بعمل ثابت، والأفضل أن أنهي دراستي أولاً قبل الانخراط كلياً في صعود السلم الوظيفي". الآن ،أنهت دراستها وحصلت على الدرجة العلمية، لكنها ...لا تجد عملاً. بحثت في كل المواقع الإلكترونية الكبرى المختصة، وأرسلت طلبات إلى عشرات الشركات، ولا جواب. أيضاً، لم يكن الحظ مواتياً لزملائها في الدراسة الذين جمعوا خلال فترة الدراسة، بين العمل ومواصلة التحصيل العلمي لأن 90 في المئة منهم فقدوا وظائفهم منذ الأيام الأولى للأزمة، وغالبيتهم الساحقة لم تجد أماكن عمل جديدة. "الأفضل أن أجلس في البيت، وأعتمد على دعم والدي، من أن أقبل بعمل أقل في مستواه من عملي السابق"هذا لسان حال أليكسي 23سنة الآن. المفارقة أن الأجيال الأكبر تعتبر تراجع معدلات الرواتب بالنسبة الى فئات الشباب بسبب الأزمة المالية"أمراً عادلاً". ويقول فيكتور 36سنة :"لم يكن ذلك أمراً طبيعياً أن يحصل الشاب الذي تخرج لتوه في الجامعة على أكثر من ألفي دولار". ويوضح فيكتور الذي راكم خبرة في العمل لعشر سنوات أن"الوضع تحول إلى مهزلة عندما يحصل الشاب الذي لا يمتلك أية خبرة على راتب يعادل راتب موظف أمضى عشر سنوات في عمله، أو حتى يزيد عليه أحياناً". يتفق كثير من الخبراء الاقتصاديين مع فيكتور، ويعتبرون أن مستويات الرواتب في عدد كبير من قطاعات العمل قبل الأزمة كانت بعيدة من التقويم الصحيح. الآن ، برأي الخبراء يمكن أن تعيد الأزمة المالية الأمور إلى نصابها الطبيعي، وستختفي معدلات الرواتب المبالغ بها، وأيضاً بفضل الأزمة سيمكن تقليص حجم سوق العمل ليتناسب مع حاجة المؤسسات فقط، ما يعني تخلص كثير منها من حال الترهل التي سيطرت في السابق. المشكلة أن رأي الخبراء يزيد من مخاوف الشباب، وكل الآخرين الذي فقدوا وظائفهم. خصوصاً في موسكو، حيث معدلات الرواتب المعروضة في سوق العمل تتقلص يوماً بعد يوم، ويصبح الحصول على وظيفة مكسباً نادر التحصيل، فيما الأسعار تزيد، وصعوبات الحياة تتراكم. وعلى رغم كل ذلك تبقى موسكو أرحم من غيرها من المدن. فهنا، خلافاً للوضع في الأقاليم، يمكن أن يساعدك الحظ لتجد وظيفة ما... بعد جهد. باختصار، تبدو اللوحة قاتمة. عمليات التسريح من الوظائف تجرى في كل القطاعات. المصارف، شركات السياحة، مؤسسات التسويق والترويج والإعلان، معارض بيع السيارات، المؤسسات الإعلامية، شركات النفط،.. واللائحة تطول. كثير من الشبان والفتيات يجدون أنفسهم فجأة على قارعة الطريق من دون عمل، بعدما اعتادوا على تحصيل رواتب جيدة، تراوح معدلاتها بين ألف وخمسة آلاف دولار. أما الجانب الآخر من اللوحة، فهو يتعلق بفقدان تعويضات نهاية العمل. ويعد من يحصل على تعويضاته كاملة بعد فصله من عمله من المحظوظين. فعادة تجبر الإدارة الموظف على توقيع طلب استقالة ينص على أن الموظف يغادر عمله برغبته، وهذا يحرمه من التعويضات طبعاً. وآخرون يتبعون أسلوباً أخر فيمنحون الموظف"المطرود عملياً"إجازة مفتوحة، من دون راتب في الغالب، أو مع منحه تعويضاً صغيراً يراوح بين 20 و40 في المئة من راتبه في أحسن الأحوال. وبرأي غالبية الخبراء، ليست هذه إلا البداية. إذ يتوقع مع حلول الربيع المقبل، أن تشهد البلاد موجات تسريح جماعية مماثلة. وليس مجرد صدفة، أن تكون المقولة الشائعة بين جيل الشباب هذه الأيام:"أفضل حصيلة في نهاية عام 2008، أن يكون لديك عمل عام 2009". نشر في العدد: 16698 ت.م: 22-12-2008 ص: 33 ط: الرياض