تقول نادية 20 عاماً، وهي طالبة في احدى جامعات موسكو، ان "من الصعب ان تعيش في موسكو براتب يبلغ 110 روبلات 3،4 دولارات شهرياً". وتقيم نادية في قسم داخلي للطلاب، وتُضطر الى العمل ليلاً في حانة لتحصل على دخل اضافي. ونشرت "لجنة الاحصاء الرسمية" اخيراً معلومات عن أدنى مستوى للمعيشة في موسكو. وتبيّن هذه المعطيات، بالاستناد الى اسعار "سلة مستهلك" متوسطة ومتواضعة تماماً تحتوي الاغذية والسلع الاساسية، انه ينبغي للمواطن العادي في موسكو ان يحصل شهرياً على 1640 روبلاً 71 دولاراً. وتوضح نادية انها تتقاضى الحد الاعلى لراتب الطالب الجامعي، وهو 110 روبلات، "لكن الراتب الاعتيادي هو 90 روبلاً 9،3 دولارات". وللمقارنة، تكلف بطاقة المترو الشهرية في موسكو 120 روبلاً 2،5 دولارات، وكيلوغرام الجبن من النوعية الجيدة من 60 الى 90 روبلاً 6،2 الى 9،3 دولارات. ونادية طالبة ممتازة، لذا تتقاضى راتباً أعلى. وتقول، مع ابتسامة ساخرة، ان "الحديث الذي يدور هو انه لن تكون هناك أي رواتب اخرى. قد تضحك، لكن، حتى هذه المنح التافهة تمثل مالاً بالنسبة لطلبة كثيرين". ونادية محظوظة مرتين: اولاً، نجحت في الحصول على وظيفة كنادلة في "مقهى البلوز" وسط موسكو، حيث تعزف فرق موسيقى البلوز التي تحبها. وثانياً، يبعث اليها والداها بين حين وآخر بطرود تحتوي اطعمة. وتقول: "مسقط رأسي في منطقة كراسنودار جنوبروسيا، وهي منطقة زراعية تقليدياً، لكن الناس هناك يعيشون حالياً في وضع بائس. ومع ذلك، يحاول والداي ان يساعداني بارسال فاكهة وخضروات طازجة في الخريف، واطعمة معلبة في الشتاء، بالاضافة الى الخضار والبصل والثوم وبعض اللحم بشكل دائم". وعندما تتسلّم نادية طرد الطعام ليس بالبريد، اذ لا يمكن الوثوق به، بل بواسطة زميل من كراسنودار يعمل قاطع تذاكر في قطار على الخط الجنوبي، يعم القسم الداخلي جو احتفالي. فيأتي اصدقاؤها المقربون الى غرفتها، وتقوم بطهو الطعام، ويتجاذبون اطراف الحديث ويضحكون ويقضون وقتاً ممتعاً و ... يأكلون. تقول غاليا بنبرة تخلو من الحماسة: "عشنا من دون أب، وكانت أمي تعمل مدرّسة. كانت آخر مرة تسلمت فيها رواتب عشية رأس السنة، عندما دُفعت للمدرسين متأخرات خريف العام الماضي، واعلنوا الاضراب الشهر الماضي لان الوضع لم يعد يُطاق من دون مال فيما ترتفع اسعار كل شىء. لا تستطيع والدتي، بالطبع، ان تساعدني. واعجز انا عن مساعدتها". تحصل غاليا على منحتها الدراسية التي تبلغ 90 روبلاً 9،3 دولارات وتُضطر الى اعطاء دروس خاصة في اللغتين الروسية والانكليزية، وهي تتقاضى من زبائنها 100 روبل 3،4 دولارات لكل ساعة تدريس، وتمضي ساعات في التنقل بين ارجاء المدينة للوصول الى اماكن سكن تلامذتها. وتشير غاليا الى ان الضائقة الاقتصادية تجعل كثيرين من الزبائن يدفعون اجوراً اقل. ومع ذلك، يبلغ ما تكسبه حوالي 100 دولار شهرياً، وهو يوازي راتب استاذها في الجامعة ويزيد بثلاثة اضعاف عن راتب امها. وعلى رغم مشاعر الحنين التي تستبد بها، لا ترى غاليا اي أفق لعودتها الى مسقط رأسها. تقول: "مهما كانت صعوبة الحياة هنا، فان موسكو هي موسكو: فرص اكثر". لكن، مهما تكن اوضاع سكان موسكو افضل بالمقارنة مع سكان منطقة نوفوسيبيرسك، فان نتائج مسح اجراها اخيراً "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" تبيّن ان 54 في المئة من سكان العاصمة - وهي أغنى منطقة في روسيا - لا يملكون أي مدخرات ويعتمدون على ما يكسبونه من يوم لآخر. ويشكو نيكولاي 45 عاماً، وهو استاذ في الجامعة، من ان "هؤلاء الطلاب يتسببون في خفض اجور التدريس الخاص". يقول: "انها فترة ازمة، بالطبع، ولا يمكن لأحد ان يجادل في ذلك. اعتدتُ قبل الازمة ان اطلب ما بين 20 و25 دولاراً لكل ساعة تدريس للغة الانكليزية. لكن سأكون محظوظاً في الوقت الحاضر اذا حصلت على 15 دولار". ويشكل التدريس الخاص احد مصادر الدخل الرئيسية لاساتذة الجامعة الذي لا تزيد رواتبهم في احيان كثيرة عن 100 دولار شهرياً. هذه السوق شبه الشرعية، التي تتملص من مراقبة السلطات الضريبية، تساعد الكثير من المدرسين، فضلاً عن طلابهم، على تمشية امورهم. ويعترف نيكولاي بأن الطلاب يتفوقون على اساتذتهم في هذا المجال، رغم المؤهلات الاكاديمية الارفع مستوى للاساتذة، "فالطلاب اكثر قدرة على الحركة، وغير مقيدين بمواعيد محددة". يفعل الطلاب أي شىء، ويمد بعضهم نشاطاته الى مجالات تتعارض والقانون. يقول فلاديمير ان "أحد اصدقائي متورط في تجارة تهريب السلع من منطقة بحر قزوين. سمك، وشحنات كافيار ... مواد مهربة". وماذا عن بعض المواد الاخرى التي تُنتج في "الجنوب"؟ يجيب فلاديمير بتردد: "حسناً، حسبما أرى، اذا لم يكن 50 في المئة من الطلاب يدمنون على المخدرات، فان 50 في المئة منهم يتعاملون بالمخدرات. ان تحقيق ربح كبير اغراء يصعب مقاومته". ربما كان حديثه عن نسبة 50 في المئة من الطلبة ينطوي على مبالغة، لكن تقريراً اصدره معهد الدراسات الاستراتيجية الذي يديره سيرغي كراغانوف يشير الى ان الفتية والشبان الذين تراوح اعمارهم بين 13 و 25 سنة يشكلون الغالبية من المدمنين على المخدرات البالغ عددهم 3 ملايين. وحسب معلومات وزارة الداخلية فان 20 الفاً من تجار المخدرات في المدن الكبرى لا تزيد اعمارهم عن 35 سنة. وتشير المعطيات نفسها الى ان نصف الطلاب تقريباً جرّبوا مواد مخدرة لمرة واحدة على الاقل. اما عن المستقبل، فان كل محدّثينا من الطلاب يجمعون على انه مجهول تماماً. وتقول غاليا ان من الصعب التفكير بتكوين عائلة. وتظهر معلومات "لجنة الاحصاء الرسمية" ان الكثير من الشباب يفكرون بالطريقة نفسها: يبلغ متوسط عمر المواطنة الروسية 36 عاماً ولديها طفلان، ويعني ذلك انها اصبحت اكبر بثلاث سنوات بالمقارنة مع عام 1989. وعلى مدى سبع سنوات متعاقبة، اصبح معدل الوفيات يفوق معدل المواليد، ويتحدث الخبراء عن كارثة ديموغرافية محدقة. وتقول نادية، التي تدرس فقه اللغة، "لا اتوقع ان اكسب اي مال من تخصصي في اللغة والادب الروسي". وتعرب غاليا بهدوء عن اتفاقها مع هذا الرأي. ويقول فلاديمير ان "الفوضى تعم البلاد. ومثل كثيرين من الشبان الذين اعرفهم، ارغب في الحصول على منحة دراسية والذهاب الى الغرب، ربما الى الولاياتالمتحدة او كندا. واتمنى لو كنت اتقن اللغة الانكليزية بشكل افضل. كنت ارغب في العمل في تجارة الاعلانات. لكن الكثير من وكالات الاعلان اُغلقت. وسأكون مستعداً لاداء أي وظيفة في الغرب، لمجرد كسب المال، وربما سأعود عندما تكون الاوضاع استقرت هنا". وهناك ميل قوي لمغادرة البلاد وسط الشباب المتعلمين. وتشير استطلاعات الرأي الى ان ثلث الشباب الروس يرغبون في الهجرة. لكن نيكولاي، استاذ الجامعة، ينصح الطلاب بالتروي، محذراً من ان "لا أحد سيكون في انتظاركم في الغرب". ويرد عليه فلاديمير: "لا أحد في انتظارنا هنا كي يعطينا وظائف في مجالات اختصاصنا". ويتابع قائلا ان "احد الاشياء الجيدة التي قام بها هؤلاء الديموقراطيون الحمقى ويلتسن انهم سمحوا بحرية السفر. اذا عاد الشيوعيون الى السلطة فان اول شيء سيفعلونه هو اقامة ستار حديدي مرة اخرى، ومنع الشباب الذين يملكون مواهب من الافلات من قبضتهم، تماماً مثلما كانت الحال عندما كنتَ انت شاباً"، وهو يومئ الى نيكولاي. صدرت عن الاخير تنهيدة، لم يبد واضحاً اذا كانت تعبيراً عن تأييده لهذا الرأي او اختلافه معه، ثم سارع الى اكمال وجبة العشاء السريعة. فقد حان الوقت ليعود الجميع الى دوامة الحياة والتنقل من مكان الى آخر في ارجاء موسكو التي غطّتها ثلوج شباط فبراير الوفيرة وتترقب بوادر الربيع الشمالي الوشيك.