نيكولاي 31 سنة يعمل في واحدة من الشركات الكبرى نصف الحكومية في موسكو. مفكرته اليومية حافلة دائماً باللقاءات والاجتماعات والمفاوضات التي لا تنتهي إلا برحلات عمل. يحلم نيكولاي بأن يرتاح قليلاً، بأن يبتعد ولو لبعض الوقت عن جنون العمل والتزاماته. لكنه بدلاً من ذلك، لا يضيع وقته. فهو يسابق عقارب الساعة مستغلاً كل دقيقة فراغ لإنهاء اطروحته لنيل درجة الدكتوراه. ومنذ تخرج نيكولاي في الجامعة، حيث حصل على درجة الماجستير في الاقتصاد، مرت ثماني سنوات. ومنذ عامه الدراسي الاخير كان بدأ العمل، وفقط بعد مرور بعض الوقت ادرك ميله نحو دراسة العلوم السياسة. وان التحصيل العلمي نقطة ضعفه والدافع الاول لحياته المهنية. وهو يعرف الآن ان دفاعه عن اطروحته لن يضيف إلى راتبه شيئاً ولن يساعده على تسلق السلم الوظيفي. باختصار يقول نيكولاي انه يبذل جهداً لشيء يحبه. "احضر رسالة الدكتوراه"هذه العبارة كافية لأن تبعث مشاعر التقدير والاحترام لصاحبها في روسيا هذه الايام، اما قبل سنوات معدودة فكان الرد المباشر الذي يلقى في وجه مردد العبارة"لماذا، ماذا ستفيدك؟". في بداية تسعينات القرن الماضي كان يمكن ان تلتحق باحدى المؤسسات التعليمية العليا من دون ان تخوض امتحان القبول، والاستثناء كان يقف حاجزاً امام الراغبين في حالات معدودة بينها الالتحاق بالتخصصات القانونية والاقتصادية. كان واضحاً ان روسيا تغيرت كثيراً، وان المستقبل لم يعد مرتبطاً بدرجة التحصيل العلمي، فمجرمو الأمس غدوا بقدرة قادر اصحاب ملايين بعدما تحولت احوال الناس والعباد بلمحة عين. اما الإجابة الأكثر شيوعاً بين الشبان رداً على سؤال: ماذا تريد ان تصبح عندما تكبر؟ فراوحت بين"عضو في المافيا"او"موديل". في تلك الظروف كان طبيعياً الا يقدر الجيل الناشئ اهمية الدراسة خصوصاً أن أصحاب الشهادات العليا"الحمراء"التي كانت تمنح للمتفوقين، يعانون شظف العيش. وغدت رواتب المهندسين والمدرسين والاطباء لا تزيد على بضعة"كوبيكات"تكاد لا تكفيهم خبزاً، ما دفع كثيرين من ابناء النخب في السابق الى العمل بائعين في الاسواق، وخيل لمراقب المشهد العام في روسيا ان عادة الميل نحو التعلم والتحصيل العلمي العالي اندثرت الى الابد. لكن، مرت سنوات عدة، وعاد امتحان القبول في الجامعات والمعاهد العليا ليكون اصعب من السابق. واكثر من ذلك فقد صرت تسمع هنا وهناك ان كثيرين يسعون إلى نيل الشهادة العليا الثانية في تخصص جديد، او للتحضير لرسالة الدكتوراه، في ظاهرة لافتة تعددت. ففي حالة الكسندر 31 سنة الذي انهى قبل تسع سنوات دراسته في جامعة العلوم والتكنولوجيا في موسكو وهي واحدة من اهم المؤسسات العلمية التقنية في البلاد، وعمل لسنوات في مجال الاتصالات والتقنيات التلفزيونية التي دخلت الى السوق الروسي في التسعينات، غدت الدراسة الثانية مطلباً ملحاً لتطوير معارفه في هذا المجال. لكنها أيضاً طريقة للتهرب من الخدمة الالزامية في الجيش. فهذا واحد من الاسباب التي تدفع الشباب الى الالتحاق بالمعاهد الدراسية العليا، التي تضم مادة عسكرية تحسب لهم من فترة خدمتهم الالزامية. وبعد ذلك يسعون إلى اكمال دراساتهم العليا فيطيلونها الى عمر ال27 فتسقط عنهم الخدمة. وأدرك الكسندر، بعد العمل لبضع سنوات في شركة غربية انه من اجل مواصلة تطوره المهني والمادي بات في حاجة الى التخصص في مجال آخر يفتح له ابواباً جديدة في شركته، والافضل ان يكون في مجال الاقتصاد، فقرر الحصول على"إم بي آي"أو Master of Business Administration خصوصاً ان ذلك غدا ممكناً في موسكو. اللافت ان القرار ذاته اتخذته زوجته التي تعمل في شركة اخرى في المجال نفسه تقريباً، مع فارق ان الكسندر دفع تكاليف دراسته من جيبه فيما تكفلت شركة زوجته بتكاليف دراستها. ولا يخشى الزوجان الشابان الآن فقدان عملهما. فبحصولهما على شهادة ثانية غدا الوضع افضل بكثير لجهة المنافسة في سوق العمل. وصار السعي الى الحصول على درجة"ام بي ايه"امراً رائجاً جداً في روسيا، لكن كما يشير الخبراء في شركة MBA Consult التي تتولى منذ عام 1998 تحضير الروس للالتحاق بالمعاهد المختصة في الغرب, فان"صرعة"هذا التخصص بدأت تنطفئ تدريجياً. فاليوم بحصولك على هذه الدرجة فانك لا تدهش احداً، لأن أعداد حملة هذه الشهادات زادت مع حلول عام 2006 خمسة اضعاف. اما قصة اليسا 32 سنة فهي مختلفة بعض الشيء، اذ انهت دراستها في كلية اللغات التابعة لمعهد آسيا وافريقيا وحصلت على شهادة البكالوريوس ثم بدأت العمل كمترجمة محلفة, وكان بوسعها ان تفتح شركة ترجمة خاصة وتحصل على الترخيص اللازم. لكنها فضلت الالتحاق بالجامعة مجدداً لدراسة القانون معتبرة ان ذلك سيساعدها على تنفيذ خطتها ويمنحها ما ينقص من المعلومات والدراية بادارة امور مشروعها. وهذه ليست حال فريدة عندما يتجه المتخصصون في اللغات الاجنبية الى نيل شهادة عالية اخرى، فعادة بعد اكمال تحصليهم العلمي يبدأ هؤلاء العمل في مؤسسات اجنبية ومحلية مرموقة، وسرعان ما يدركون ان اتقان اللغات وان على مستوى مهني رفيع جداً لا يساعد وحده على ارتقاء سلم الحياة المهنية والوصول الى المناصب العليا. لذلك غالباً ما يلجأ هؤلاء إلى الالتحاق مجدداً بمعاهد الدراسات العليا والحصول على درجات في الاقتصاد او القانون او ادارة الاعمال. وتؤثر الدرجة العلمية كذلك على رواتب المعلمين في المدارس والمعاهد المختلفة، وان كان ذلك بدرجة اقل من الشركات الخاصة، لأن الاولية هنا لسنوات الخبرة. لكن الاكثر رواجاً بالنسبة إلى هذه الفئات هي دورات رفع الكفاءة المهنية التي تشهد نشاطاً متزايداً في كل انحاء روسيا. وتستغرق عادة هذه الدورات بين شهر واحد الى نصف سنة وهي بالطبع اقل كلفة وفي متناول الجميع. اما الموضة الرائجة جداً الآن لرفع المهنية والكفاءة وزيادة المعلومات في التخصصات المختلفة فهي"السيمنارات"التي تراوح مدتها بين يومين واسبوعين وهي تقدم كماً كبيراً من المعلومات في شكل مكثف جداً وعادة ما ترسل المؤسسات موظفيها اليها.