برزت أخيراً أسماء أدبية سودانية في مشاهد ثقافية عربية وغربية حتى بات ممكناً الآن الحديث عن كتابة سودانيّة في المهجر. فأسماء مثل طارق الطيب وليلى أبو العلا وجمال محجوب وحمد الملك وسواهم، تلفت بما تبدع من أعمال وبما تترك من أصداء في المنابر الخارجية... هذه الأسماء التي تتحرك في بلدان مثل بريطانياوهولنداوالنمسا، والتي تختلف في أسباب خروجها من السودان مثلما تختلف لغات أعمالها، ترى إلى أي حد تبتعد أو تقترب في مسافتها من المشهد الأدبي المحلي؟ نشير إلى أن بعض النقاد السودانيين يرد شهرة الروائي الطيب صالح وذيوعه، إلي مصر على وجه التحديد، ومن قبل نسب بعض الأقلام سطوع اسم الناقد الرائد معاوية نور 1909-1942 إلى مصر كذلك، أما الشاعر التيجاني يوسف بشير 1912/1938 فقد توفي معلقاً رغبته في الهجرة إلى مصر: أملي في الزمان مصر فحيا الله مستودع الثقافة مصرا... ... نضر الله وجهها فهي ما تزداد إلا بعد عليّ وعسرا لم يبق الخارج مصر مثلما كان لغاية الستينات، بل انفتح طموح الكتاب السودانيين للهجرة إلى أوروبا وآسيا إلى جانب دول الخليج، وفيما كان التيجاني يوسف بشير في عشرينات القرن الماضي يتطلع إلى مستودع الثقافة في مصر فإن كتّاباً مثل يحي فضل الله العوض وحمد الملك وخالد عويس ومحسن خالد وغيرهم ممن هاجروا في التسعينات كانت أسباب هجرتهم سياسية واقتصادية في الغالب! حول هذا الواقع الجديد للكتاب السودانيين يقول الناقد هاشم ميرغني ل"الحياة": إن التسعينات شهدت ما يشبه الفرار الجماعي لجموع المبدعين، وقدمت هذه الهجرة عوناً ثميناً لهم، ومن ذلك الانفكاك من وطأة القهر السياسي والاقتصادي الى آفاق أرحب، حلت إشكالات النشر التي تمثل احد المآزق العويصة للكاتب السوداني. احتك الكاتب السوداني بثقافات أخرى تمثل الحداثة حجر الزاوية فيها ليس على مستوى النصوص فحسب ولكن في أدق تفاصيل الحياة اليومية، وهو حقق قدراً من الاكتفاء المادي الذي يدعم استمرار الإنتاج الإبداعي، فمكنه ذلك من رؤية واقعنا السوداني الحافل بالأزمات من بعد دون السقوط في أحبولته وإعادة إنتاجه على الورق. اما الروائي عبدالعزيز بركة من الخرطوم فيأخذ على الكتّاب المهاجرين ضعف علاقتهم بالداخل وكتّابه، يقول: انهم لا يقدمون لكتاب الداخل أي عون يذكر في ما يخص التعريف بهم وتعريفهم بالآخر أو ترجمة أعمالهم الداخل الى لغة المهاجر، ولا يساهمون في تقديم كتّاب الداخل إلى دور نشر عالمية هم أقرب إليها وقامت بنشر أعمالهم، لا يدعونهم إلى مؤتمرات أو زيارات قد تساهم في تعميق تجاربهم. وطأة المنفى الكاتب خالد عويس الذي يقيم في الإمارات العربية يرى"ان هناك وجهين، إيجابي وآخر سلبي، في هذه المسألة. هناك احتكاك وخبرات وتلاقح يتأتى من خلال الهجرة، إضافة إلى فرص النشر عبر دور نشر عربية كبيرة. أنا الآن شبه متعاقد مع دار الساقي بيروت لنشر أعمالي، والغربة أيضاً تحفز في الروائي الحنين إلى المكان والناس، وتعيد صوغ المعاني والارتباطات والأحداث في داخله، لكن الغربة في المقابل تسرق منا أعمارنا، وتسلمنا إلى شعور ثقيل الوطأة بالمنفى، فالظروف التي دفعتنا إلى الهجرة لم تكن من اختيارنا، ولا نحسد على مناف كهذه. في بداية هجرتي عرفت المسغبة، وكنت أبحث عن أي عمل بأي طريقة، وفي ظروف بالغة القسوة. لم أكن أجد ما يكفيني مؤونة القدرة على السير أربع أو خمس ساعات... تخيّل!! تخيل المشي سيراً على القدمين في حرارة كحرارة العاصمة السعودية. نجحت في الحصول على عمل، واجتهدت لكي أحصل على الأفضل، وارتقيت من عمل صحافي بسيط إلى إدارة مكتب صحيفة لندنية في السعودية، ثم إلى قناة"العربية"، كان من هذا كله ما أدفعه من صحتي ومن ارتباطي بالوطن والناس. مات والدي وأنا في المنفى، ومات أقرباء وأصدقاء، وعانت أسرتي الكثير. الروائي احمد الملك الذي يقيم في هولندا يعين صورته في مهجره الأوروبي مشيراً الى"إن الفترة الأولى التي قد تمتد طويلاً تكون فراغاً في إنتاج الكاتب بصورة عامة، صدمة الانفصال المفاجئ عن الأجواء التي اعتاد الكاتب العمل فيها. وجوده في بيئة مغايرة بظروفها المختلفة، ومع صعوبة إحتراف الكتابة كعمل، يتعين عليك في مجتمع رأسمالي ان تكون مشغولاً دائماً بعملك أو ببرامج تؤهلك للعمل، وكل ذلك سيكون على حساب تفرغك للإنتاج الأدبي. ولكن، هناك منظمات كثيرة تحظى بدعم الدولة وتساعد الكتّاب والشعراء والفنانين على ترجمة إنتاجهم ونشره والبحث عن فرص عمل في مجالات قريبة، أو دعمهم للتفرغ لإنجاز مشروع أدبي أو فني. بالنسبة إليّ، ساعدتني إحدى المنظمات على ترجمة نماذج من كتاباتي ونشرها في كتيب صغير وزع على أعداد من المهتمين والناشرين، وكانت النتيجة موافقة ناشر هولندي على ترجمة وطباعة"الخريف يأتي مع صفاء"وسينشر في العام المقبل". ويكشف احمد الملك عن ميزة في الخارج تتعلق بالحقوق الأدبية:"عند توقيع العقد تحصل على مقابل مادي يساوي تقريباً ضعف ما تدفعه لناشر عربي مساهمة منك لطبع كتابك، ثم تحصل على حساب نهاية كل عام يبين عدد النسخ المباعة والنسبة التي حصلت عليها من ريع بيع كتابك". خبز ومعرفة الروائي عبد العزيز بركة ساكن يبدو أقل تفاؤلاً ويتساوى عنده كتاب الداخل والخارج في ضعف تأثيرهم في القراء، يقول: لا أثر واضحاً لكتاب الخارج و الداخل معاً، في المدى القريب على الأقل، فالكتب حبيسة مكتبات الخرطوم والناس منشغلون بالخبز عن المعرفة. أما في ما يختص بأثر كتاب الخارج على كتاب الداخل فلا وجود له، هنالك هوة ما بين المجموعتين، اذا استثنينا ما يصلنا منهم من أخبار عبر شبكة الانترنت، وهي في الغالب تنقل خلافاتهم أكثر مما هي نافذة للتواصل المعرفي والثقافي، لا نعرف شيئاً عن كتبهم التي تصدر أو توزع في الخارج، نسمع عن نيلهم الجوائز وترشيحهم سفراء للثقافة، وترجمة أعمالهم إلى لغات الدنيا الحية، لم يكن لذلك كله على رغم أهميته أثر في الداخل، ولو انه يفرحنا جداً. نورد هنا ان السوداني طارق الطيب كانت النمسا انتخبته سفيراً ثقافياً لها في العام 2007 ومنحته وسام الجمهورية. ضعف الاهتمام خالد عويس يؤكد حديث عبدالعزيز بركة قائلاً: روايتي الأولى،"الرقص تحت المطر"، التي تكفلت دار أنا الخرطوم - المكتبة الأكاديمية - بنشرها، لم يكن الاهتمام بها داخل السودان بالقدر الكبير، على رغم إشارة بعض النقاد إليها باعتبارها من الروايات الأولى التي عالجت مسألة الجنوب في إطار الإنساني. لكنها لاقت اهتماماً في الخارج إذ بدأ بعض المراكز الأكاديمية والثقافية الإفريقية يهتم بها، وعمل على دراستها البروفسير أولادو أفيس من جامعة إبادان في نيجيريا، وشارك بورقة حولها في مؤتمرات في أستراليا والولايات المتحدة. أما روايتي الثانية،"وطن خلف القضبان"، فأعتقد أنها حظيت برواج كبير لدى القراء السودانيين، وهذا ربما يعود إلى منعها في السودان، ما صوّب الأنظار ناحيتها، فالممنوع مرغوب. اعتقد كتاب الداخل هم الأكثر حظاً، فالمقابل المادي لكاتب يبقى دائماً من دون طموح الكفاف، والعزاء الذي يبقى للمرابطين في الداخل هو استمرار عطائهم المتصل أكثر بحياة وأشواق أهلنا ووطننا. احمد الملك أيضاً غير راضٍ عن مستوى توزيع أعماله في بلده، يقول: تجاربي في محاولة إيصال كل ما كتبت إلى القارئ داخل السودان لم تكن مرضية بصورة عامة، فمثلاً في عام 2001 طبعت مجموعة قصصية في سورية ووعدني الناشر بتوزيع الجزء الأكبر من الكمية المطبوعة داخل السودان ولم يحدث ذلك الى الآن، وما حدث من إختراق إن جاز القول، كان من طريق النشر بالانترنت، إذ وصلتني رسائل من عدد مقدر من القراء داخل السودان. في عام 2003 تكرر الأمر حين نشرت رواية"الخريف يأتي مع صفاء"، وعدني الناشر بتوزيع جزء من الكمية المطبوعة في السودان ثم أعتذر لاحقاً متعللاً بعدم وجود وكيل. صدرت طبعة ثانية عن دار عزة مع مجموعة قصصية قبل حوالى العامين ولا معلومات عندي حالياً عن مستويات توزيع الكتابين. ولعل من المفيد إغلاق القوس بإشارة إلى ما كان قال الروائي السوداني - البريطاني جمال محجوب في حوار معه لا أعتقد أن الكثير من الكتّاب يشعرون بأن استقبال كتبهم يتماشى مع توقعاتهم، نحن الكتّاب نظن أن العالم سيتحرك لكن ذلك لا يحدث، فنصاب بالإحباط. شعرت بذلك على وجه الخصوص مع روايتي Navigation of the Rainmaker، التي كتبت فيها عن الأزمة المعاصرة في السودان وبداية الحرب الأهلية عام 1983 والمجاعة والانقسام السياسي. ففي بريطانيا أجريت مقارنة الرواية مع كتابات نادين غورديمر من حيث تعقيدها السياسي، ولكن معظم الكتّاب في بريطانيا لا يعرفون أين يقع السودان. كانت تجربة مؤلمة. يمكن القول إن الأشياء الى الأفضل الآن، لكن، ما زلت مندهشاً من هذه المركزية في الغرب. فروايتي الأخيرة The Drift Latitudes لقيت من الأوساط الثقافية البريطانية اهتماماً كبيراً وكتبت عنها إحدى عشرة دراسة نقدية، وهذا ما لم يحدث مع أعمالي السابقة، والسبب أن معظم أحداثها جرى في بريطانيا. نشر في العدد: 16696 ت.م: 20-12-2008 ص: 29 ط: الرياض