لا أذكر بين الناس الكثيرين الذين عرفتهم، من قرب أو من بعد، مصابين باليقظة، أو بمرضها وآفتها.... عرفت بالأحرى، كثرة من المصابين بهوى النوم. ففي المدرسة الداخلية، شطر لا بأس به من التلاميذ كان يبتدئ نومه على مقاعد قاعة الدرس، قبل الصعود الى المنامة - وهذه كانت مكاناً يشكل مختبر هوس النوّم وأحوال النائمين على اختلافها وأنواعها، على رغم سعة وقت النوم، وخلو المساءات من تلفزيون او فيديو -، وشطر آخر، من ضمن الشطر نفسه، كان ينزل الى قاعة الأكل متأخراً. وعندما تطفأ الأنوار إيذاناً بوجوب الذهاب الى النوم، كانت تعلو أصوات الشخير سريعاً، وتندد اصوات أخرى، يقظة بالشخير، لكنها لا تلبث ان تلحق بها. ولم يحدث أن جاء ناظر المنامة ليأمر بالنوم، او يدعو إليه. والناظر نفسه جاء مرات، في الصباح الباكر، ليدعو أولاً نائمين متأخرين، ينامون نوماً شرهاً وشرساً في بعض الأوقات، الى الاستواء على أقفيتهم قبل الاستواء على أقدامهم، وليكرههم على الاستفاقة ثانياً إذا هم لم يمتثلوا للدعوة اللفظية. ولا تزال عذابات الخروج من النوم، ومن السرير، في البرد على وجه الخصوص، من الصور التي تصبغ بصبغة الترويع، الأخبار عن استجواب المحققين بعض أصناف السجناء وإرهاقهم واستنزافهم باليقظة ليلة أو اثنتين أو ثلاثاً. ولعل هذا ما ربط ربطاً محكماً بين الاستيقاظ وبين الإرادة، وبينه وبين العمل. فالإقامة ب"الصلاة خير من النوم"لا تنفصل عن"حي على الفلاح". والاثنان، الصلاة والعمل، ليسا على الضد من العمل في الأذان وحده، أو في بعض صيغه. ولم أدرك الضدية الحادة هذه من متداول القول، بل من اختبارها اليومي، الصباحي، في أطوار الحياة كلها ومراحلها. فالأهل كانوا يذهبون الى النوم ذهاب المشتاق الى مشتاقه. فكنا ننتظر العطلة الصيفية، والعطل الفصلية، الى عطلة آخر الأسبوع، انتظاراً محموماً، إن لم يكن على أحر من الجمر. ولا ينفرد أحد، أو فئة، بهذا الانتظار. فكلنا فيه سواء. والحق انه لم يشذ عن هذا إلا أفراد قلائل أو آحاد. وأذكر منهم واحداً كان"بيكاً"ابن"بك". وكان البك يسهر كل ليلة الى مطلع الفجر، على ما سمعنا. وتترك سيارته موقفها أو مرآبها مساء. وتبقى طوال النهار في موقفها، قرينة على مبيت صاحبها ونومه الى بعد الظهر. وهذا امتياز قديم طوي وأفل. وعندما عُرف، غداة 5 حزيران يونيو أن قادة الجيش كانوا غارقين في سباتهم صبيحة ليلة قضاها معظمهم في سهر صاخب، وقيل ماجن، أيقن من شاهدوا بكوات في طفولتهم أو فتوتهم أن هؤلاء بعثوا من جديد في زي المنقلبين عليهم بالقوة من أبناء الفلاحين وصغار التجار والموظفين. والموظفون في المكاتب، أو في التعليم - وهذا شأننا العائلي ولداً عن أب، وأباً عن جد، وأماً عن جدة - يقتضي عملهم يقظتهم الباكرة. فالساعة الثامنة صباحاً، بدا الاضطرار الى"الحضور"في مكان العمل فيها، صفاً أو مكتباً، قدراً محتوماً لا خلاص منه. ولا تدرك الساعة الثامنة هذه إلا في ختام إعداد أو تحضير طويل يرقى الى ساعتين ربما قبله في أحيان كثيرة. فالمسافة بين البيت والعمل أو المدرسة كانت، ولا تزال، ثقلاً تنوء به كواهل كثيرة، ويرهق صدوراً تئن من عذابه. ولا يطبق برنامج العمل أو الدراسة، في الظروف الطبيعية والعائلية و"النفسية"كلها، التأخر أو الإخلال بتوزيع الساعات، وقسمتها و"بروغرامها". فالامتثال فرض واجب، وإلا لم يبق العمل عملاً على نحو ما لا تبقى الصلاة هذه الصلاة وفرضها وعينها. ورد الجواب على الامتثال وضرورته هو الاحتيال على اليقظة بالنوم. فننام في ساعات برنامج العمل"الجوفاء"، على ما يسميها المدرسون. وننام بعد الغداء، إذا أمكننا الحال. ونقيل بعد الظهر في أيام العطالة والبطالة. ونمسك عن المنبهات خوف اقتطاعها وقتاً من نومنا، وتفويته علينا. وننسب الى الملزمين بالعمل ليلاً، مثل بعض فئات السواقين أو عمال وردية الليل أو أطباء الإسعاف الليلي وممرضيه وممرضاته أو من يسمين عاملات الليل من غير إيضاح، ننسب إليهم وإليهن"أحوالاً"تخرجهم من الأسوياء، ومن عالم المستيقظين. فعالم اليقظة إنما هو تتمة عالم النوم والنائمين. ولا تستقيم يقظة، وعمل وصلاة، إلا بنوم عميق. نشر في العدد: 16694 ت.م: 18-12-2008 ص: 22 ط: الرياض