عادة، يتهم النقاد الشعراء الجماهيريين، المعروفين بأنهم ينشدون عيون قصائدهم في محافل جمعية بأنهم يهملون شأن الفن الشعر لحساب الجمهور، وأنهم يضعون الجمهور في المحل الأول من الاعتبار فتنبني قصيدتهم على أنها موجهة للجمهور بالدرجة الأولى، فتحرص القصيدة، عندهم، على الخطابية وعلى الصور التشبيهية الموجزة، أو الصورة الكنائية التي لا تمتد، كي تتحول إلى رمز، ويختارون الأوزان المتدفقة السهلة، والكلمات التي تغدو محطات للصوت في علوه وانخفاضه، وغير ذلك من حيل الإنشاد التي يلجأ إليها الشاعر ليسيطر على جمهوره، ويتلاعب بانفعالاته بواسطة الإلقاء الذي يتحول، بدوره، إلى تقنية موازية من تقنيات الإنشاد المتجه إلى الجمهور والحريص على إثارته المستمرة والسيطرة الانفعالية عليه، عملاً بالقاعدة القديمة التي تقول إن من البيان لسحراً وبالفعل هناك وصف لسحر التلقي الجمعي نجده عند طه حسين عندما تحدث عن الطريقة التي استجاب فيها جمهور حاشد، كان هو واحداً منه، إلى قصيدة شوقي الشهيرة: "الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدِّد خالد العرب". ويمضي طه حسين، في كتابه عن حافظ وشوقي، ليصف لنا الفارق بين التلقي الجمعي الذي شارك فيه الآخرين في الاستجابة إلى القصيدة الشهيرة، وتلقي القصيدة نفسها في عزلة عن الجماهير الحماسية التي هزها انتصار الجيش التركي في الحرب التي خاضها تحت قيادة أتاتورك ويقول طه حسين إنه عندما فرغ إلى نفسه، وأصبح وحيداً مع القصيدة وجد حماسته لها تتناقص، ويرى من سلبياتها في وحدته ما لم ينتبه إليه وسط الحشد الحماسي المشحون بانفعالات انتصار أتاتورك على أعداء الأمة الإسلامية وكان من الطبيعي أن يعيد طه حسين النظر في القصيدة، وأن تتقلص قيمتها، وهو يتلقاها وحيداً، ويدرك كما ندرك معه، أن الشاعر عندما يتوجه بقصيدته إلى جمهور عريض، في عملية استقبال مباشر، لها تقنياتها الخاصة، فإن آلية التلقي تختلف عن لو كان القارئ يستجيب إلى القصيدة وحيداً، الفارق، هنا، هو حق الجمهور الذي يفرض نفسه على القصيدة عند كتابتها، وقبل الاستماع إليها، وحق الشعر أو الفن الخالص الذي لن يضعه الشاعر في الصدارة من اعتباراته، إذا كان تركيزه على الجمهور بالدرجة الأولى. وليس من الضروري، بالطبع، أن تكون العلاقة بين الأطراف حَدِّية على هذا النحو في كل الأحوال، فمن الشعراء من يستطيع أن يقيم توازياً بين حق الجمهور وحق الشعر أو الفن، فلا يغبن أياً من الطرفين حقه، ويكون شاعراً لفنه الاعتبار الأول، حتى وهو يخاطب جمهوراً عريضاً من المستمعين ومنطقي أن يختلف الشعراء في هذا المدى، ومن الممكن أن يأتي حق الشعر على سبيل التعاقب أو الانفصال عن حق الجمهور الذي لا يدفع الشاعر الكبير، قط، إلى تعمد شيء قبل النظم، فالتعمد كالتصنع أو الاحتفال في الصنعة سمة الشعراء التقليديين في وجه عام، وليس سمة الشعراء المحدثين الذين تعودوا أن يخلقوا قصائد، يكون لقاؤها بالقارئ منفرداً، في نوع من التوحد الذي يتيح التأمل والاستجابة العفوية في آن. ولقد كان أمل دنقل واحداً من الشعراء الذين يراعون حق الشعر، ويحرصون على فنيته العالية، وفي الوقت نفسه مراعاة الجمهور الذي يتوجه إليه بالخطاب، محققاً إحدى الوظائف الاجتماعية للشاعر التي يكون بها ضميراً للجماعة، وشاهداً على عالمها، ومواجهاً كل ما يحول بينها وآفاق الحرية التي ترتجيها ولذلك لم تُنْسِ الصلة بالجماهير قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر في تقنيات شعريته إن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع أذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات، وصنع الأوزان والإيقاعات المتجاوبة والعالم الذي تناوشه القصيدة في هذا العالم ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاوراً لافتاً بين الحداثة والتقاليد، خصوصية الرؤية الشعرية الفردية وجماعية الوجدان الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية. ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة، إن غوص هذا الشعر في تجاربه، وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وقدرته على صياغة نماذجه البشرية الدالة، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وتصويره شخصيات إنسانية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في"يوميات كهلّ صغير السن"وپ"سفر ألف دال"وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة ومفردات عالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار، والإحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، إذا تأمل أسرار البناء التي تخفي الصنعة بمزيد من الصنعة، واختيار معجم لا نبوّ فيه، مفرداته تتنزل في أماكنها كأنها خلقت لها، في سياقات لا تعرف النبوّ أو الخلل أو التقطع أو التقبض كلها خصائص تتجاوز المناسبة، أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على جذر العناصر الإنسانية المتأصلة في هذه اللحظة. وأضيف إلى ذلك عذوبة التعبير عن المشاعر الفردية ورهافتها، وإفرادها بالكتابة، وذلك بما يجعل منها أشبه بمحطات النغم، أو فترات الراحة التي تتوسط التدافع الصارم الجهم للصور، على نحو تلتقط معه الأرواح القارئة أنفاسها، وتهدأ، قبل أن تواصل الطريق الشائك للقصائد، أو حتى بعد انتهاء الطريق الشائك للقصائد، وذلك بعد يستحق الإشارة إليه في شعر أمل دنقل، على الأقل لأنه بعد يختفي هوناً نتيجة غلبة الشعر السياسي والقضايا القومية على شعر أمل دنقل والواقع ان الوجه القومي الجمعي العام مسؤول عن تهميش الوجه الفردي الخاص من شعر أمل دنقل ولذلك لم استغرب عندما سألني الشاعر عبد المنعم رمضان، ذات مرة، بوصفي صديق أمل دنقل، قائلاً هل توجد في شعر أمل دنقل صور امرأة أحبها؟ وكان السؤال يعني أين الجانب الخاص من شعر أمل دنقل الفرد؟ وتحدثّت طويلاً عن الجوانب الخاصة الفردية من شعر أمل دنقل، سواء في قصائده العامة التي يتسلل إليها الخاص وسط العام، أو قصائده التي هي أقرب إلى السيرة الذاتية، وعلى رأسها قصيدته"يوميات كهل صغير السن"التي هي نوع من الموازاة لقصيدة الشاعر ت إس إليوت"أغنية العاشق ألفريد بروفروك"ولكن قصيدة أمل كانت أكثر تعبيراً عن همومه الفردية في مصريتها الخالصة من ناحية، وفي انتمائه إلى الشريحة الصغرى من البرجوازية الصغيرة من ناحية مقابلة. ولم يقتصر الأمر على ذلك عند أمل دنقل، فقد كان صوته الخاص يتخذ نبرة تدل عليه من وراء أقنعة الشعراء الذين اختارهم لقربهم من نفسه، وأخص بذلك قناع المتنبي وقناع أبي نواس وأتوقف من هذه القصيدة عند مفتتحها على وجه التحديد: "ملك أم كتابة؟" صاح بي صاحبي وهو يلقي بدرهمه في الهواءْ ثم يلقفه خارجين من الدرس كنا وحبر الطفولة فوق الرداء والعصافير تمرق عبر البيوت وتهبط فوق النخيل البعيد. والمفتتح بالغ الدلالة على حق الشعر، فهو يلجأ إلى تشخيص شخصية طفلين، كلاهما رمز للبراءة الخالصة التي لم تلوثها الأيام، فضلاً عن أن الدرامية التي يستهلها المقطع تجذب الذهن إليها، لا ليردد ما فيها انبهاراً أو اتّباعاً، وإنما ليتأمل، ويفضي به التأمل إلى ما ينطوي عليه الفن من انطواء الوجود كله على ألغاز لا تحلها سوى الأيام، وعلى أسئلة يشتبك حضورها بالمشهد الطبيعي الذي يسرح بالخيال عبر البيوت والأزمنة، كي يهبط في المستقبل الذي يتكون من رحم البدايات، لكن لا يعلم ما يسفر عنه إلا الزمن الذي يظل بالمرصاد كالمراقب المحايد والشاهد الصامت على تقلب المصائر وسخرية الأقدار. وبمقدار ما تكون دنيا الطفولة غاية لإرضاء الفن، في مدى حي الشعر، فإن القناع نفسه وسيلة أخرى لإعطاء الفن حقه، فالقناع استعارة موَّسعة ترتقي إلى وظيفة الرمز في النهاية وهي، بحكم طبيعتها، تمنع موضوع القصيدة من الانزلاق على الذهن، وتبطئ التقاء الوعي به، وذلك على نحو يتيح للوعي تشرّب الموضوع وتمثل المعنى على مهل، كما يحدث في كل الرموز وليس القناع وحده بقادر على أن يحقق هذه الوسيلة، فهناك الصور المتجزئة، المتباعدة، لكن التي تحمل دلالات موضوعها، ومنها ما نراه في قصيدة"رسوم في بهو عربي"التي تبدأ على النحو الآتي: "اللوحة الأولى على الجدار ليلى الدمشقية من شرفة"الحمراء"ترنو لمغيب الشمس ترنو للخيوط البرتقالية وكرمة أندلسية وفسقية وطبقات الصمت والغبار نقش مولاي ، لا غالب إلا الله". والمقطع كله رمزي الدلالة، يأخذ شكل بقايا لوحة مرسومة في ذاكرة الأجيال لغرناطة التي ترنو في شخص ليلى الدمشقية حيث تقع عاصمة الأمويين الذين استهلوا فتح الأندلس إلى غروب شمسها، غير بعيد عن كرمة أندلسية، وفسقية، تراكم عليها الصمت والغبار الذي كاد يطمس شعار الدولة الأندلسية في ذلك الوقت لا غالب إلا الله، وتتجاور هذه اللوحة، مع ثانية عن المسجد الأقصى وآية تآكلت حروفها الصغار وبعد مقطع عن سرحان يأتي نقش يؤكد أن من يقبض فوق الثورة، يقبض فوق الجمرة وتأتى اللوحة الأخيرة خريطة مبتورة الأجزاء كان اسمها، سيناء ولا إضافة تستحق الذكر بعد ذلك، فالقصيدة ليست من النوع الجماهيري، وإنما هي مكتوبة لقارئ فرد، يتأملها في توّحد، كي يعي دلالات المشهد، وما تقوم به دلالات اللوحات يوازي ما يقوم به القناع الذي لا يبخس الشعر قدره، خصوصاً حين تتسع فرجات القناع هوناً وتبين عن مشاعر ذاتية قاهرة لا يمكن نسيانها إزاء ذات السترة القرمزية التي تصفها قصيدة"سفر ألف دال"على النحو الآتي: "دائماً، حين أمشي، أرى السترة القرمزية بين الزحام وأرى شعرك المتهدل فوق الكتف وأرى وجهك المتبدل فوق مرايا الحوانيت في نظرات البنات الوحيدات في لمعان خدود المحبين عند حلول الظلام، دائماً أتحسس ملمس كفك في كل كف المقاهي التي وهبتنا الشراب الزوايا التي لا يرانا بها الناس تلك الليالي التي كان شعرك يبتل فيها فتختبئين بصدري من المطر العصبي الهدايا التي نتشاجر من أجلها حلقات الدخان التي تتجمع في لحظات الخصام دائماً أنت في المنتصف أنت بيني وبين كتابي وبيني وبين فراشي وبيني وبين هدوئي وبيني وبين الكلام ذكرياتك سجني، وصوتك يجلدني ودمي قطرة بين عينيك ليست تجف فامنحيني السلام".