عرف الكاتب والفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل بنزعته السلمية، ولا سيما عند أواسط القرن العشرين وحتى نهاية حياته. بل ان سمعته هذه استمرت سنوات طويلة بعد رحيله وذلك بفضل"محكمة راسل"التي كانت أُنشئت تحت رعايته وغايتها، بين أمور أخرى، محاكمة مجرمي الحرب، معنوياً، وإدانة المسببين للحروب. غير ان هذه لم تكن سمعة راسل دائماً، ولا سيما عند بدايات القرن العشرين. فهو، حتى وإن لم يكن ? بالطبع ? من دعاة الحروب ومن الساعين إليها، وضع بعد عام ونصف عام من اندلاع الحرب العالمية الأولى نصاً اشتهر في حينه، وتسبب له في عدد من المشاكل ولا سيما مع الحكومة البريطانية. كان عنوان النص"أخلاقيات الحرب"، وفيه دافع راسل عما سماه"حروب الاستعمار"، لكنه في الوقت نفسه وقف ضد اشتراك بريطانيا العظمى في الحرب العالمية الأولى، ما جعل لندن تطارده، مانعة في طريقها"ترينيتي كولدج"من تجديد العقد معه، بل ما لبثت الحكومة البريطانية ان حكمت عليه بالسجن عام 1918، بتهمة التدخل في سياسة بريطانيا الخارجية. ولعل ما أغضب الحكومة في ذلك الحين هو أن راسل قال ان على"العمال البريطانيين ان يحذروا الجيش الأميركي لأن من عادات هذا الجيش قمع التظاهرات العمالية. يومها سجن راسل ستة أشهر، وحين أُطلق سراحه وضع تحت المراقبة. ويقال ان هذه المراقبة ظلت تلاحقه حتى آخر حياته. فهل في الأمر مفارقة؟ كيف يدعو راسل الى الحروب الاستعمارية في نص يثير غضب حكومة بريطانيا فتسجنه؟ إن قراءة ذلك النص ستقول لنا ان ليس في الأمر غرابة. ذلك ان ما كتبه راسل هنا إنما هو شرح وتفسير لأربعة من أنواع الحروب، رأى ان منها ما يمكن تبريره ومنها ما لا يمكن تبريره. وهو إذ اعتبر ان ثمة حروباً يكون من آثارها مناصرة الحضارة والتقدم، فإن ثمة في الوقت نفسه، حروباً، لا دافع لها على الإطلاق. ويبدو هنا ان الحكومة البريطانية وجدت في خطاب راسل، أنه يشير إليها بالنسبة الى الحروب الأخيرة، غير المبررة، بل الحقيقة انه يشير فعلاً إليها، في الفقرة الأخيرة من المقال. بل من الواضح ان راسل ما كتب مقاله إلا كي يصل الى تلك الفقرة، علماً أن عام كتابة المقال 1915 كان عام السجال المحتدم من حول تلك الحرب التي كانت بدأت قبل حين، مثيرة قلق كثر في العالم، كاشفة عن ان القرن العشرين سيكون قرن الصراعات الدولية بامتياز. وكان هذا، طبعاً، ما دفع راسل لكتابة ذلك النص الفلسفي، الذي أراد من خلاله، كما هو جليّ ان يساهم في نقاش حول الحرب والسلام، كان يشغل مثقفي أوروبا جميعاً في وقت كانت المدافع تُطلق والقتلى يسقطون بعشرات الألوف وتستخدم الجيوش آلات ووسائل دمار جديدة. وفي اختصار يمكن القول هنا اننا اذا حكمنا على راسل من خلال هذا النص، سيمكننا ان نقول انه لم يكن من أنصار السلم. كان بالأحرى يقف ضد حروب معينة فقط على خلفية انها ضد مصلحة الحضارة، وهي بالتالي لا أخلاقية... لا أكثر ولا أقل. ومن هنا، إذا كنا نراه في"أخلاقيات الحرب"يدافع عن حروب الاستعمار، فإنه إنما فعل ذلك، انطلاقاً من وقوفه"الى جانب المصلحة الحضارية"، أي انه كان يرى ان"الاحتلال الاستعماري يمكن تبريره إذا كان آتياً من حضارة متفوقة قادرة على فرض أوضاع فضلى على مناطق لا حضارة فيها". منذ البداية يقول لنا برتراند راسل في هذا النص ان مسألة الحق والصواب في حرب معينة، إنما يُنظر إليها بصورة عامة، من وجهة نظر حقوقية أو شبه حقوقية: فلان أو علاّن خرق معاهدة ما، أو اخترق حدوداً ليست له، أو قام بعدوان معين، ما يجعل من المنطقي معاقبته أو قتله. غير ان راسل يرى ان ثمة منطقاً مختلاً في مثل هذا القول وثمة تعميماً غير صحي وغير صحيح."فالواقع ان في خلفية الحروب، وفي شكل دائم، جملة لا تنتهي من الأسباب والدوافع، فإذا شئنا التحدث عنها، قد يجدر بنا، يقول راسل، ان نتوقف عند أربعة منها، وذلك من خلال تصنيفه لأربعة أنواع من الحروب". وهذه الأنواع هي التي يكرس راسل الجزء الأكبر من صفحات هذه الدراسة لتحليلها والتوقف عند بعض اهم سماتها، ولكن بعدما يؤكد لنا ان خط سيره في فكره يسير، مع فكرة تقول ان"من الضروري، في النظر الى الحرب، اي حرب، ان نأخذ في الحسبان ليس فقط تبريرها النظري على ضوء الاتفاقات المعقودة سابقاً، بل تبريرها الحقيقي في ميزان الخير الذي يمكن ان تأتي به الى الجنس البشري". واللافت ان راسل يرى في الحروب الاستعمارية مثل هذا الخير. فهذه الحروب هي التي تشغل النوع الأول في نظره، حيث يحدد مسار حديثه هنا، كما قلنا، بالأنواع الأربعة التالية: حروب الاستعمار الاستيطاني، حروب المبادئ، حروب الدفاع عن الذات، وأخيراً حروب الهيبة والكبرياء القومي. وبداية يقول لنا راسل ان النوعين الأولين يمكن تبريرهما، أما النوع الثالث فبالكاد يمكن تبريره، فيما لا يمكن تبرير النوع الرابع على الإطلاق وهذا النوع هو الذي، يرى راسل، تخوض بريطانيا الحرب العالمية الأولى على ضوئه، ومن هنا فإن حربها هذه مرفوضة!. ويقول راسل هنا متابعاً: الحروب الاستعمارية هي تلك التي تكمن غايتها في زحف شعب بأسره الى منطقة ما، ليبدلها عبر غزوه سكان هذه المنطقة المنتمين الى عرق مختلف، غالباً، ويقول راسل ان الحروب القديمة كانت غالباً من هذا النوع، بما فيها الحرب على الهنود الحمر. صحيح ان هذه الحروب تبدو شديدة القسوة، لكننا إن أخذنا نتائجها في الاعتبار سنجدها مبررة، لأن"الحضارة لم تنتشر في العالم، بعد كل شيء، إلا بفضل مثل هذه الحروب"! النوع الثاني، بالنسبة الى راسل هو"حروب المبادئ"مثل تلك التي دارت بين البروتستانت والكاثوليك، أو بين الإنكليز والأميركيين في اميركا الشمالية. وهذه الحروب تكون ناتجة من اعتناق فئات معينة أفكاراً تريد نشرها في العالم، على حساب أفكار أخرى. ومثل هذه الحروب يمكن راسل تبريرها، وخصوصاً في حال كانت المعنية بالأمر أمة تمارس طقوساً عبادية معينة، فتعرضت لهجوم من أمة تمارس طقوساً أخرى. إذ هنا لا شك في أن خوض الأمة الأولى للحرب دفاعاً عن مبادئها يمكن تبريره تماماً. وهنا إذ يجد راسل ان شيئاً من الحرب العالمية الأولى يمكن ان يكون متصلاً بهذه الفكرة الدفاع عن الديموقراطية هنا، يقول انه لا يعتقد مع ذلك ان الأمر كذلك، لأنه لو انتصر الحلفاء في الحرب، هل معنى هذا ان ألمانيا وحلفاءها سيصلون الى الديموقراطية، كشرط من شروط الهدنة؟ في المقام الثالث، هناك حروب الدفاع عن النفس. وهذا النوع من الحروب يبرر دائماً من كل الناس وفي كل الأزمان، باستثناء السيد المسيح وتولستوي اللذين لا يريان مبرراً لمثل هذا الدفاع. لكن راسل يلفتنا هنا الى انه، بما ان كل علماء الاستراتيجيا يؤكدون لنا ان خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، يجد الأمور مختلطة، ومن هنا تحفظه على تأييد أو على إدانة هذا النوع من الحروب. وعلى العكس من هذا تماماً، بالنسبة الى النوع الرابع والأخير الذي يدرسه راسل هنا:"حروب الهيبة"أو الكبرياء الذاتية. هنا يقول راسل ان هذه المشاعر غالباً ما لا تكون سوى عنصر واحد من العناصر الكامنة وراء حرب ما، لكنها مع هذا عنصر شديد الأهمية. ويرى راسل ان"الحرب الراهنة"أي العالمية الأولى كانت هكذا حتى بداياتها، ثم تبدلت لتدخل فيها عناصر أخرى عدة. لكنه لم ير في أي من هذه العناصر مبرراً... تلكم هي، في اختصار شديد طبعاً، نظرة برتراند راسل 1872- 1970، الى أنواع الحروب التي توقف عندها. ويبدو من الواضح هنا ان هذا النص، الفلسفي والتحليلي الطابع، إنما كُتب تحت وطأة السجال البريطاني حول حرب كان راسل يرى انها غير مبررة، فحمّل نصه رسائل عدة، تتضمن أحكاماً وأفكاراً، كان من السهل التراجع عنها لاحقاً. ونعرف ان راسل عاش كل حياته، بعد ذلك، وكتب كل نصوصه، وناضل ما ناضل، كنوع من التراجع عن تلك الأفكار. ليس عنها كلها، بل عن تلك التي أراد فيها تبرير بعض الحروب. [email protected] نشر في العدد: 16690 ت.م: 14-12-2008 ص: 14 ط: الرياض