دعا ترشح باراك أوباما عن الحزب الديموقراطي الأميركيين الى مواجهة عدد من المسائل: الأولى هي فحص علاقات أعراق السكان بعضها ببعض، والثانية معالجة الثغرة بين الأجيال فأوباما هو مرشح الشباب سناً ولا تصله بجيل الحقوق المدنية صلة، والثالثة تتناول الجنس أو"الجندر"فهو يحظى بميل الناخبات، والرابعة تتعلق بالمنطق الطبقي وتطلعات أبناء الطبقات المتواضعة البيض قبل السود ربما. والمسألة الأخيرة حاسمة في ميزان الاقتراع الوشيك. ف"الطبقة الكادحة البيضاء"، على ما يسميها الأميركيون، هي بيضة القبان الانتخابية. فالعمال البيض الفقراء هم ثلث السكان الأميركيين البيض. وتعرفهم مؤسسة بروكينغز للدراسات، في دراسات جديدة، بثلاثة معايير: مستوى التعليم والعمل أو المهنة والدخل. فثمة 14 في المئة من الأميركيين البيض تركوا الدراسة في المرحلة المتوسطة، أو في المرحلة الثانوية. وحظوظ هؤلاء في الارتقاء الاجتماعي ضعيفة. وفي أثناء الأربعين سنة الأخيرة، تردى مستوى أجر هذه الفئة من العمال 20 في المئة. وعليه، فالهامشية الاجتماعية هي مصيرهم المرجح. وأما العمل، فالعمال"المؤهلون"، أو"المختصون"، وهم ركن الطبقة العاملة التقليدية، يقتصرون على سدس الطبقة هذه. وعلى رغم ضمور حصتهم، لا يزال أصحاب"الياقات الزرقاء"، على ما يسمى العمال"المختصون"، حلقة جوهرية في الوعي العمالي الأميركي. ويجتمع اليهم وحولهم أصحاب"الياقات البيضاء"المتواضعون في المدينة، والجماعة الدنيا من أهل الريف. وأصاب انهيار القطاعات الصناعية التقليدية، وانتقال أجزاء راجحة منها الى البلدان الناشئة، أصحاب الصنفين أو اللونين من الياقات، بأزمة مستعصية، وفرقهم وشتتهم. ومعظمهم يقيم ويعمل في ولايات سلسلة جبال أبالاش، ما بين بنسيلفينيا وفيرجينيا وتسينتكي وجورجيا، وفي ولايات ميتشيغن وأوهيو وإيلينوي. والمستخدمون المصروفون، والعاملون في المرافق الصناعية الآفلة، أو في الخدمات اليدوية، وقدامى العناية الطبية، هؤلاء ينضوون تحت راية العمال البيض والفقراء، شأن أهالي ريف الجنوب"العميق"الذي لوعهم غلق المصانع في بلادهم، وتبدد الأعمال الزراعية. ولعل معظم هذه الطبقة من أميركيين لا يعملون، فهم متقاعدون ومعوقون ونساء ربات بيوت وبطالون أو عاطلون من العمل. وعلى رغم بطالتهم هم، على سبيل الطبقات، جزء راجح من طبقة الكادحين البيض. وينهض اعتداد العامل بنفسه، ووعيه بهويته، على الحدود الذاتية التي يقيمها أو يرسمها بين"هم"و"نحن". فوعي"البروليتاريا الأميركية"الطبقي لا ينسلخ عن الهوية البيضاء، ولا عن انكماش العمال"البيض، العرقي، المتحدر من قسوة الرأسمالية الحديثة. ولا يصدق الكلام على"ثقافة طبقية"وعمالية أميركية إلا قياساً على صورة شارلي شابلين الساخرة في"الأزمنة الحديثة"، أو على صورة مارلون براندو الغاضبة في"أرصفة الميناء". ويغلب في الصورتين وجه العامل الأبيض دون سواه، وتظهر دراسة بروكينغز الإحصائية ان الانتساب الى الطبقة معياره الأول مستوى التحصيل المدرسي والعمل المهني. ويتقدم المعيار المزدوج هذا مستوى الدخل. وأدى تردي الأحوال الاقتصادية، وتعاظم التفاوت الاجتماعي منذ عهد ريغان، الى ولادة طبقة اجتماعية طيفية سماها الباحثان كاترين س نيومن وفيكتور تان شين"الطبقة المفقودة". وهذه تتخطى عتبة الفقر من غير الاندماج في الطبقة المتوسطة. ويبلغ عديدها 54 مليون أميركي، وهؤلاء لا يحظون بتأمين صحي، وينُؤون بالدين، وقاصرون عن تعليم أولادهم تعليماً جامعياً، على رغم انهم يعملون ويكدون ويسددون ضرائبهم. فعلى معنى عريض، كل أبيض من غير تعليم جامعي، ولا يبلغ دخله السنوي 30 ألف دولار، هو من الطبقة هذه. وعليه، فنصف الناخبين البيض هم منها. وخسارة الحزب الديموقراطي ميول الجماعة الناخبة هذه واقتراعها انعطاف سياسي حاسم. وعوَّل الحزب طويلاً على الجماعة العمالية التي كانت الصناعات الفوردية التجهيزية مرفقها. ومعظمها من"البيض الاثنيين"، المتحدرين من الهجرة الإيرلندية والأوروبية الوسطى واليهود جزء من هذه واليونانية. والرابطة الوثيقة والقومية التي شدت الحزب الديموقراطي الى النواة العمالية هذه هي العامل الأول في فوز فرانكلين دي روزفلت وهاري ترومان بأربع ولايات رئاسية وديموقراطية متصلة. فوسع الرئيسين إنشاء جولة الرعاية لقاء المساندة العمالية الثابتة هذه، ودام العقل الاجتماعي والسياسي في أثناء الخمسينات من القرن العشرين، وأتاح للعمال الانخراط في الطبقة الوسطى. وفي أثناء الستينات، انقسمت الطبقة الوسطى الديموقراطية شطرين: شطر استقر شريحة عليا، استبقى من الستينات وبلائه السياسي فيها، مطلب الحقوق المدنية وشمولها، الأقليات، وشطر شعبي ومتواضع لا يقر بما يؤدي الى لمس امتيازات السكا البيض. وتجديد تعريف الحزب الديموقراطي نفسه، من طريق استيعاب تيارات الاحتجاج وجماعات الثقافة النقيض، وسعت الهوة بينه وبين ناخبي الطبقة الشعبية. فعلى خلاف اقتراع 55 في المئة من الناخبين البيض هؤلاء للمرشح الديموقراطي، في 1960، اقترع 35 في المئة، في 1972، له. وعلى شاكلة تأويل الطبقة الشعبية البيضاء، في أثناء القرن التاسع عشر، أزمتها الاجتماعية ? الاقتصادية تأويلاً عرقياً، ذهبت الطبقة هذه، في العقد السابع من القرن العشرين، الى التأويل نفسه: إذا كانت دولة الرعاية في خدمة الأقليات، فليس عليها هي، الطبقة الشعبية، أن تسدد نفقة الدولة هذه. وعلى الصدع هذا، كسب ريغان فوق 60 في المئة من اقتراع طبقة الكادحين البيض في دورتي 1980 و1984. وسعى بيل كلينتون، وهو فقير من الجنوب، في الجمع بين نبرة شعبوية تستهوي الجماعة العمالية وبين تكييف المعتقد الديموقراطي الجديد، واضطراره الى قبول عصر النفقات العامة، ومديح المسؤولية الفردية. فأفلح في اجتذاب 41 في المئة من الطبقة الشعبية البيضاء، في 1992. وقوى الميل الشعبي اليه رجاءُ نمو اقتصادي استثنائي، وعاد فأضعف الميل هذا إخفاق فاقه إصلاح النظام الصحي وهو ما تعهدته هيلاري كلينتون، وبينما كان 75 في المئة من أكثر الناخبين البيض يجهرون بولائهم الديموقراطي، في 1962، تقلصت النسبة الى 43 في المئة، في 2004. وبعض السبب في الحال هذه محافظة الناخبين البيض في أيمن السلم في المسائل الاجتماعية الثقافية الإجهاض، زواج المثليين.... ولكن الحزب الجمهوري يستقطب نسبة عالية من الأغنياء البيض المحافظين، ومناهضي الإجهاض 92 في المئة، تفوق الفقراء الذين يشاطرونهم الرأي 57 في المئة على نحو واضح. ولاقت هيلاري كلينتون قبولاً قوياً في صفوف الطبقة العاملة البيضاء، على رغم"تقدميتها"الثقافية والاجتماعية، فناخبو هذه الطبقة شطر غالب من الملايين ال18 الذين اقترعوا لها. ويبدو، في مرآة الانتخابات النصفية منتصف الولاية في 2006، ان الطبقة الكادحة البيضاء مدت الجسور من جديد مع الحزب الديموقراطي، على رغم دوام غلبة الجمهوريين فيها. ولا شك في أن الجمهوريين أنفسهم يشكون في قدرتهم على ابقائها في صفهم إذا هم لم يصلحوا ايديولوجيتهم الليبرالية المفرطة والفائتة على نحو متعاظم. والقبول الذي لاقته هيلاري كلينتون في صفوف المتواضعي الحال يبدو صدى لتجديد ايمانها باتقاء البيض المهمشين. ولمخاطبتها المباشرة إياهم، الى اقتراحها إجراءات دقيقة مزجت الواقعية الاقتصادية بتقوية دولة الرعاية. وهي تقدمت باراك أوباما في الولايات التي تغلب فيها الثقافة العمالية والريفية، ويكثر البيض الفقراء، مثل أنديانا وكنتكي وأوهيو وبنسلفينيا، بنسبة اثنين الى واحد. وشكوى أوباما، في 6 نيسان ابريل 2008، من مرارة أهل بلدات الوسط الغربي، وتعلقهم بالسلاح الناري والدين، وطعنهم في المهاجرين والانفتاح الاقتصادي، وإحباطهم، هذه الشكوى انما تتوجه الى هؤلاء. وردت عليه هيلاري كلينتون منددة بتعاليه البورجوازي والنخبوي عليهم. وكان الرد مقنعاً. ويتردد توقع الاقتراع الأبيض الشعبي بين احتساب يقظة الرد الانفعالي على إجماع السود على"مرشحهم"والدعوة الى اجماع"البيض"، وبين استمالة الاقتراع لمرشح ملون جمهوراً أميركياً يغلب الخلاص والتخفف من عبء إرث عرقي مرهق. وشاهد على جواز الاحتمال هذا تقدم أوباما في ولايتي كانساس ومونتانا. والحق أنه منذ عقود، وأغاني الريف الشعبية، وهي ميزان مشاعر جمهور شعبي عريض، تردد تعلق الجمهور هذا بالقيم الجمهورية الوطنية والريفية. وفي 2003، انقسم غناء الريف ومغنوه. فأعلنت فرقة"ديكسي شيكس"، وهي من أشهر فرق هذا الفن، قرفها من بوش وادارته المتورطة في حرب العراق. فآذن هذا بصدع البلد والجمهوريين. وفي مؤتمر الحزب الديموقراطي الذي انتدب أوباما الى خوض معركة الرئاسة، في آب أغسطس 2008، كان أشهر مغني ال"كاونتري"، ويلي نلسون، على المنبر. عن سيلفي لوران مؤلفة "أميركا الهوميرية"، "إسبري" الفرنسية، 10/2008