في مستهل العملية السياسية لترشيح وانتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية التي بدأت منذ أشهر عدة كانت تساورني الشكوك بشأن انتخاب باراك أوباما بما يوحي بأنه لن يتم انتخابه لأسباب جوهرية عايشتها وأمثالي في أميركا خلال سنوات ابتعاثي للدراسات العليا. ففي تلك الحقبة كانت هناك حقائق اجتماعية تعد من المسلّمات لا يمكن أن يتجاهلها المرء، وكانت فعلاً إذا لاحت في الذاكرة بمثابة حلم أن ينتخب رئيس لأميركا من أصول أفريقية. ولكن عندما تم انتخاب أوباما رئيساً قادماً للولايات المتحدة الأميركية أقول حقيقة لقد انتابتني حالة من الدهشة لأيام عدة، ثم اكتشفت لاحقاً أني على خطأ في ما استقر في الذاكرة، لأن أميركا التي أعرفها قد تغيرت فعلاً، وحدث تغيير جذري عميق في الفكر السياسي الاجتماعي بانتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. ولعلي هناك أستذكر ما قاله الرئيس المنتخب في خطاب النصر أن أميركا تتغير وأن انتخابه هذا يحدث في أميركا فحسب، وأن قوة الديموقراطية الأميركية والرغبة الأكيدة في احداث التغيير هما الدافع الذي أفضى إلى ما أفضى إليه. وفي هذا السياق إذا ما نظرنا إلى آلية الانتخاب لوجدنا أن تسجيل الناخبين في عملية الانتخاب وللمرة الأولى منذ فترة طويلة شكل 36 في المئة من الديموقراطيين و33 في المئة من الجمهوريين و29 في المئة من المستقلين، موزعين مناصفة بين الجمهوريين والديموقراطيين، كذلك نلحظ أن 60 في المئة من الذين انتخبوا أوباما هم من الأميركيين البيض، و40 في المئة من الأميركيين من أصول أفريقية وغيرهم. ومن الجدير بالذكر أن 16 في المئة من الناخبين المسجلين كانوا من فئة الشباب وهؤلاء انتخبت غالبيتهم باراك أوباما، ولذلك أعود فأقول إن ما حدث بانتخاب الرئيس أوباما هو تغيير حقيقي في مجمل النسيج الاجتماعي الأميركي، وإن السنوات الثماني الماضية قد أفضت إلى رغبة حقيقية لدى الأميركيين لإحداث التغيير، رغبة حقيقية لاستعادة أميركا دورها الطليعي والريادي في العالم الذي يجب أن يقوم على الحق والعدل والمساواة والثبات على الرأي والمبدأ. وكذلك بانتخاب أوباما رئيساً يبدو أن لدى الأميركيين رغبة في الابتعاد عن عقلية جون واين، والعودة إلى العقلانية والحوار القائم على المصالح المشتركة والتكافؤ وحسن الجوار واحترام رأي المجتمع الدولي. ولعلنا إذا أردنا أن نحدد أولويات الرئيس أوباما للسنوات الأربع المقبلة نستطيع أن نبذل جهداً لحصرها كما يأتي: 1- الاقتصاد والمال حتماً هما من أولويات الرئيس المنتخب الذي صرّح بشأنهما فعلاً لانتشال أميركا من عثرتها الاقتصادية والمالية التي تفاقمت بما أثر سلباً في المستوى العالمي، وفي تقديري أن اختيار أوباما لفريق عمله من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، القائم على الخبرة والمعرفة، سيمكّن الرئيس الأميركي المنتخب من إنعاش الاقتصاد الأميركي، الأمر الذي لن يتم بين عشية وضحاها بل قد يتطلب في تقديرنا أكثر من ثلاث سنوات. 2- يعرف تقليدياً وتاريخياً عن الحزب الديموقراطي الأميركي اهتمامه الكبير بالحقوق والحريات ولعل الرئيس المنتخب سيحرر المجتمع الأميركي من القيود التي فرضت عليه تحت ذريعة الأمن الوطني، لتعود للأميركيين حريتهم وخصوصيتهم التي افتقدوها، وبالتالي ليستشعر ذلك كل من يتردد على الولاياتالمتحدة الأميركية. كما أتصور أنه سيكون هناك مزيد من العدالة في قوانين الهجرة الأميركية قوانين التجنس والإقامة والعمل وبهذا تعود أميركا التاريخ، أميركا التي أراد صانعو الاستقلال أن تكون دولة فريدة في ما يتعلق بالحقوق المدنية وفي إطار مفهومها الشامل. 3- وفي ما يتعلق بمعتقل غوانتانامو السيئ السمعة فسيكون من أولويات الأمور التي سيتصدى لها الرئيس المنتخب لإنهاء هذه الحقبة المظلمة في تاريخ القضاء الأميركي، وكذلك في إطار جغرافي مجاور لمعتقل غوانتانامو فإن الرئيس الأميركي المنتخب سيقْدم على إعادة العلاقات مع كوبا وإنهاء حال المقاطعة الطويلة الأجل مع هذه الجارة لأن العالم فعلاً قد تغير. 4- وفي ما يتعلق بشأن أميركا في العراق ففي تقديرنا أنه سيكون من أولى الأولويات لحل هذا الموضوع، اذ يتم سحب كبير للقوات، وليس انسحاب القوات، وسينتهي الأمر إلى ترسيخ موطئ قدم لأميركا في العراق، وفي هذا الصدد يتعين على الولاياتالمتحدة أن تصغي لأصدقائها في المنطقة حيث إنها لم تفعل ذلك ابتداءً، ما أدى إلى تفاقم الأمور. 5- أما في ما يتعلق بأفغانستان ففي تقديرنا سيكون هنالك تركيز أولي وقوي عليها من قبل الرئيس الأميركي المنتخب، بغية إحداث تغيير يشعر به الناخب الأميركي بل العالم ككل ليعيد لأميركا مكانتها وهيبتها، ما قد يدفع اوباما إلى استخدام ودفع المزيد من القوات لتحقيق ذلك. ومرة أخرى يتعين هنا على الإدارة الأميركية الجديدة أن تستشير وأن تصغي لأصدقائها. 6- وفي ما يتعلق بقضية الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية فيبدو لي - والله أعلم - أنها ستكون في أدنى درجات سلم اهتمامات الإدارة الأميركية الجديدة لاعتبارات سياسية متعددة الأبعاد تتعلق بالجانب الفلسطيني الذي يعيش حالاً من الانقسام المتفاقم، وكذلك بسبب الأولويات التي لدى الرئيس الأميركي المنتخب أوباما، ألا وهي الحال الاقتصادية والمالية لأميركا في الوقت الراهن. وفي النهاية فلعلّ القارئ يستذكر الكلمة الشهيرة للزعيم الأميركي الراحل مارتن لوثر كنغ قبل 45 عاماً عندما تحدث عن أن لديه حلماً.. ولقد تحقق هذا الحلم بالفعل. * وزير الحج السعودي نشر في العدد: 16670 ت.م: 24-11-2008 ص: 17 ط: الرياض