يعرض الفنان التشكيلي اللبناني محمد قدّوره بعد طول غياب في صالة"ألوان"صيفي فيليج في بيروت، 62 لوحة مائية. تعكس شغف ريشته في تجسيد حرارة اللون وسطوع النور في طبيعة بلده، ملهمة ريشته طوال ثلاثة عقود، ومصدر لقّب"رسام النور"الذي عرف به. قدّوره البياض لغة جمالية وأسلوباً وميزة في محاكاة المنظر المائي بعيداً من تقاليد المنظر الانطباعي في التشكيل اللبناني، حتى أضحى توقيعاً ثانياً للفنان في مغامرة المحو المتعمّدة لبعض أشكال الواقع، مما أعطى مفهوماً جديداً لعلاقة اللون بالفراغ والضوء بانكساراته الظلية. فالسطوع القوي للنور والدفء اللوني يقابله رطوبة الأفياء ونضارة النبات في مناظر تجلو العين لفرط نظافتها اللونية ونظامها الهندسي الخفي ومناخاتها الداخلية العاكسة تأملات العزلة والسكون. جديد محمد قدّوره يذكّر بقديمه، لكأن الحاضر لا يمكن رؤيته واستيعابه إلا على ضوء الماضي. فهو ما زال على ولعه بتصوير مسقط رأسه، عين المريسة، خاصرة بيروت، ونافذتها البحرية الرحبة، التي رافق تغيراتها وتحولاتها، بعينين حزينتين وغصة في القلب. أحس قدورة منذ مطلع السبعينات بالخطر الكامن في مشاريع إزالة معالم العمارة القديمة من حي يجمع إلى جانب بريق ذكريات طفولته أجواء عمارة بيروت مطلع القرن العشرين، فكان معرض"وداعاً عين المريسة"العام 1973، قصائد حب كتبها قدروه بألوانه ومشاعره وتمرده، والتقط فيها ايقاع الأمكنة المهددة بالزوال. البيوت المغطاة بالقرميد الأحمر وقباب النوافذ الحاملة أصص الزهور، ومطلة على البحر ووهج شمس تمنح كل جدار ثوباً من نور. وهكذا استطاع في"معرض لبنان ضيعتي"سنة 1977 أن يجعل من مسقط رأسه، نموذجاً لقضية جمالية وانتمائية حادة، بعدما أنسن خصائص البيت اللبناني، ليغدو رمزاً جمالياً لتكوين معماري طالما ميّز النسيج المديني لواجهة بيروت البحرية. بين الرقوة والقوة يصل النظر الطبيعي الى توازنه مع المساحة البيضاء. لكأن النور يحدد المساحة، يخطها ويؤطرها معبر للنور والهواء شسوع والشغور. جدّد قدورة طوال مسيرته الفنية في تقنية الألوان المائية، لاسيما في اعتماده على ما يمنحه الورق الياباني المصنوع من القطن الخالص، من ملامس وتموجات وانطباعات وتهيّؤات، كاشفاً عن مقدرته في مخاطبة الواقع المرئي بمنطق تصويري - اختزالي مبسط وانتقائي، يبتغي عصارة الشكل ومفاصل الحركة وحيوية التناغمات اللونية وأسرارها، محافظاً على الطبيعة المكانية وخصوصية اللون المحلي. تجذبه الأمواج العاتية في فصل الشتاء فتغدو الموجة موضوعاً، ومثل ماء على ماء يتجلى البياض العالي حين ينقلب ملحاً وانكسار موجٍ مبلل النبرات. وهل أنسب من تصوير البحر بألوان الماء. وهل انسب من اللوحة المائية في التعبير عن شفافية السوائل وبياض النور وزرقة الموج وزجاج النوافذ المرسومة بالظلال البنفسجية؟