هناك أسباب أساسية لنشوء ظاهرة التخصيص على المستوى العالمي أهمها: انهيار النظام الشيوعي في البلدان التي كانت تتبناه وانتقالها الى اقتصاد السوق، الانتشار السريع والشامل للعولمة وفتح أسواق السلع والخدمات والعمالة على بعضها البعض، تدني مستوى أداء وإنتاجية وخدمات مؤسسات القطاع العام وعدم فاعليتها، وإعاقتها للنشاطات الاجتماعية والاقتصادية التي تهم المواطنين والقطاع الخاص، ما يؤدي الى هدر الوقت والجهد وتأثيرات سلبية في النمو. في المقابل فإن القطاع الخاص يتميز بالمبادرة والحرص وبذل الجهد، ويسعى الى زيادة الإنتاجية وتحسين نوعية السلع والخدمات، تحركه في ذلك الرغبة في تحقيق الربح، في ظل قوانين السوق القائمة على المنافسة الحرة، حيث البقاء للأقوى والأفضل. وفي لبنان كان الرئيس رفيق الحريري ومعه الرئيس فؤاد السنيورة من أنصار الإصلاح الإداري الشامل وتخصيص مؤسسات القطاع العام، للتخلص من الآثار التدميرية والتخريبية التي خلفتها الحروب الطويلة وبناء دولة حديثة تتماشى مع روح العصر واتجاهاته وتمكن لبنان من التقدم والازدهار والنمو وزيادة قدرته على المنافسة في منطقة الشرق الأوسط التي سبقته كثيراً خلال فترة الحروب تلك. لكنهما فشلا في تحقيق هذا الأمر لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، ولغلبة منطق المحاصصة الطائفية والسياسية حيث استغلت القوى النافذة من داخلية وخارجية إدارات الدولة ومؤسساتها لتوظيف المحازبين والأنصار والتابعين، من دون الأخذ في الاعتبار الأهلية والكفاءة والاختصاص وأخلاقيات العمل. كما تحولت الدولة الى"دولة إعالة"بدلاً من أن تكون أداة ومحركاً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتبنى البيان الوزاري للحكومة اللبنانية الجديدة مسألة التخصيص، علماً أن المجلس الأعلى للتخصيص أنشئ في مرحلة سابقة، ومن مهماته: دراسة القطاعات المقترحة للتخصيص وتقديم الاقتراحات في شأنها، وقد يشترك بالإشراف عليها ووضع الخطط في شأنها. ومن النتائج المهمة للتخصيص: تخلص الدولة من أعباء مالية تتحملها الخزينة العجز المزمن والضخم لمؤسسة كهرباء لبنان، حصول الدولة على موارد إضافية، تسهيل معاملات المواطنين ومؤسسات القطاع الخاص وتوفير الوقت والجهد والحصول على خدمات ذات نوعية عالية، جذب الاستثمارات الضرورية لتحقيق النمو، إيجاد فرص عمل جديدة وكثيرة، استعادة قسم مهم من اللبنانيين المهاجرين من ذوي الكفاءات والاختصاص، تنشيط البورصة والسوق المالية في لبنان وتحسين أداء الاقتصاد وزيادة قدرته على تحقيق معدلات نمو عالية، وإيجاد الظروف المساعدة لإنجاز برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المقدم الى مؤتمر باريس ?3، وتخفيض عجز الموازنة وحجم الدين العام، وزيادة فعالية الإنتاج ومستوى المنافسة في القطاعات كافة، وجعل النشاط الاقتصادي منسجماً مع منطق العولمة وتطوراتها، ومع شروط الانتساب الى منظمة التجارة العالمية. وهذا بدوره يفرض إعادة هيكلة وتحديث مجمل إدارات الدولة. قطاعات للتخصيص ومن القطاعات المعرضة للتخصيص بصورة كاملة أو جزئية وفي فترات مختلفة: الاتصالات، الطاقة والكهرباء، النقل، مرفأ بيروت، تكرير مياه الصرف الصحي، تكرير النفط والمواقف العامة. ويشهد العالم منذ فترة ثورة مهمة في قطاعي الاتصالات والمعلومات واكبت ظاهرة العولمة، وهما يتطوران بصورة سريعة ومذهلة، ويقومان بدور أساسي في تطوير التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز القدرة التنافسية للبلدان التي تعتمد عليهما. وأصبح هذان القطاعان مرتبطين أيضاً بقطاع الالكترونيات. وبفضلهما يصبح العالم بأسره بمتناول اليد، حيث يمكن الحصول على المعلومات والقيام بالاتصالات والحصول على الخدمات المطلوبة بسرعة كبيرة ما يؤدي الى تشابك العالم وانفتاحه أمام الجميع، والى توفير الوقت والجهد، والى النمو والتطور في مختلف البلدان وعلى المستوى العالمي، حيث اصبحت تكنولوجيا ووسائل الاتصالات والمعلومات تدخل في صلب القطاعات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتمد عليها. وأكبر مثل على ذلك دولة سنغافورة التي تعتبر رائدة في السوق العالمية في مجال الاتصالات والمعلومات، فهذا البلد استطاع اقتصاده تطويع ودمج تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في صلب رؤيته التنموية و"خطط التطوير"للوصول الى"الأمة الرقمية"، حيث 82.5 في المئة من المنازل في سنغافورة تستخدم تقنية"البرودباند"المتطورة، وقد ترتفع هذه النسبة الى 90 في المئة بحلول عام 2015. وقد حقق قطاع المعلومات والاتصالات عائدات تقدر بنحو 51.68 بليون دولار في عام 2007. ووصلت عائدات صادرات هذا القطاع الى 65 في المئة من إجمالي عائداته. والبلدان العربية، خصوصاً الخليجية منها، هي في خضم تجربة الاعتماد على قطاع الاتصالات والمعلومات في شكل واسع ومكثف وصولاً الى إنشاء"الحكومة الإلكترونية"، من خلال التعاون مع شركات سنغافورية متخصصة وغيرها التي تملك خبرة واسعة في هذا المجال. أما قطاع الاتصالات والمعلومات في لبنان فهو غير متطور مقارنة بغيره من الدول المحيطة به، خصوصاً الدول الخليجية، فنمو عدد المشتركين في قطاع الاتصالات كان بطيئاً للغاية بين عامي 2000 و 2007، في حين أن تكاليف الهاتف الخليوي تعتبر الأعلى في المنطقة، وذلك يعود الى الطابع الاحتكاري لنشاط شركتي الخليوي"ألفا"، و"إم تي سي" المرخص لهما، وغياب المنافسة وارتفاع الضريبة، ما أدى الى تدني مستوى الخدمات المقدمة وبتكلفة مرتفعة نسبياً. الى ذلك فإن مستخدم الانترنت في لبنان يقضي 8 أضعاف الوقت اللازم لإتمام عمله مقارنة بدول مشابهة، وتعتبر نسبة استعمال خدمات خط"الانترنت الرقمي السريع"الأدنى على مستوى المنطقة. هذا على رغم أن هذا القطاع حقق زيادة واضحة في الواردات الإجمالية عام 2007 وصلت الى 2000 بليون ليرة. كانت في حدود 1700 و 1780 بليون ليرة في عامي 2005 و 2006 على التوالي. أما عدد مشتركي الهاتف النقال فقد بلغ في نهاية عام 2007 نحو 1.255 مليون أي بزيادة قدرها 12 في المئة مقارنة بعام 2006 حيث بلغ العدد 1.103 مليون. وإذا كانت نسبة انتشار الهاتف النقال تشكل 31 في المئة من عدد سكان لبنان البالغ 4 ملايين نسمة، فإن هذه النسبة أعلى بكثير في العديد من دول المنطقة. الى ذلك فإن عدد مشتركي الهاتف الثابت سجل زيادة طفيفة حيث بلغ 717 ألفاً في عام 2007، بعد ان كان في حدود 655 ألفاً و 682 الفاً في عامي 2005 و 2006 على التوالي. أما نسبة مستخدمي الانترنت الذين يتضمنون أيضاً المشتركين، فتشكل 26 في المئة من مجمل عدد السكان. ولم يتجاوز عدد مشتركي الانترنت السريع في نهاية عام 2007 اكثر من 23 ألفاً. وإذا كان البيان الوزاري للحكومة الجديدة تبنى تخصيص قطاع الخليوي فإنه ينطلق من اعتبار هذا القطاع محركاً أساسياً للاقتصاد الوطني يسهم في عملية الإنماء المتوازن. لذلك يجب فتح السوق أمام الاستثمارات الخاصة وعلى أساس المنافسة وحماية حقوق المستهلكين وإيجاد السبل القانونية والتنظيمية لتكوين سوق عصرية ناجحة، تقوم على بنى تحتية بتقنيات متطورة تضمن للبنان خدمة اتصالات بمستوى عالمي، وقادرة على المنافسة مع الخارج، وتساعد على تخفيف الأكلاف وتحقيق مردود عال لخزينة الدولة. هذا مع الحفاظ على حقوق الموظفين، وتأسيس شركة"اتصالات لبنان"وخصخصتها ومنحها ترخيصاً لتكون شبكة خليوية فور تأسيسها. وعلى عملية تخصيص القطاع الخليوي أن تتم بشفافية عالية ووفقاً للقوانين والمعايير الدولية لتأمين أكبر مردود اقتصادي ممكن، ما ينعكس إيجاباً على مصالح المواطنين، إضافة الى ضرورة تحسين التغطية ونوعية الخدمة للمشتركين وتوسيع قاعدتهم وخفض الأعباء عليهم، ما يسهم في زيادة القيمة المالية للشبكتين. كما يجب تحسين وتطوير خدمات الحزمة العريضة""البرودباند"وإصدار التراخيص اللازمة لتشجيع استثمارات جديدة في مجال الألياف البصرية وغيرها من التقنيات، وتحقيق الاستعمال الفعال لحيز الترددات اللاسلكية الوطنية عبر تنظيمها، والعمل على توفير الشروط لتطوير الاتصالات الدولية بزيادة سعتها وتحسين خدماتها وتخفيض أسعارها. وسيجرى العمل على ضبط مداخيل الدولة ورفع القيمة المالية للشبكة الثابتة بتحسين وزيادة الخدمات وعدد المشتركين بأسعار تنافسية وحل مشاكل البريد، إضافة الى الحفاظ على سرية التخابر وضمان أمن الشبكات والمعلومات وفق القوانين والأطر التشريعية والأنظمة اللازمة. نتيجة لكل ذلك فإن لبنان يمكن أن يتحول الى"مجتمع التواصل المعلوماتي الواسع والمنفتح"عبر استحداث مشاريع وأواليات وتقنيات جديدة تصل الى المناطق المفتقرة إليها، وتوسيع شبكة المستهلكين، وإيجاد آلاف فُرص العمل الجديدة، وتحقيق الإصلاح المعلوماتي للحكومة واستقطاب رؤوس الأموال والاستثمارات، ودفع عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية الى الأمام وغيرها من النتائج الأخرى المهمة. وتتولى"الهيئة المنظمة للاتصالات"التي أنشئت عام 2007 دوراً مهماً في إيجاد بيئة منظمة تساعد سوق الاتصالات على تقديم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا في مجال خدمات الاتصالات بأسعار تنافسية ومعقولة، وعلى أوسع نطاق ممكن للشعب اللبناني وشركات الأعمال. الى ذلك فهي مكلفة تحرير قطاع الاتصالات، والقيام بالإصلاحات لتطوير خدمات"الحزمة العريضة"وتوزيعها، وبإطلاق المزاد الهادف الى تخصيص أصول الشبكتين المملوكتين من الدولة، وإصدار رخصتين مدتهما 20 سنة لتقديم خدمات الهاتف الخليوي، ومنح الترخيص وتخصيص قفل الهاتف الثابت الوطني بعد إشراك القطاع الخاص فيه، وهو الآن ممثل بشركة"أوجيرو"التابعة لوزارة الاتصالات تحت اسم"ليبان تيليكوم". وتخطط الهيئة لإطلاق"تراخيص"الحزمة العريضة الوطنية"و"تراخيص النفاذ الى الحزمة العريضة"في الفصل الرابع من عام 2008. وستسعى الهيئة وبالاعتماد على أفضل التجارب الدولية الى إعداد"نظام ترخيص وإدارة حيز الترددات اللاسلكي"لاستخدامه في المجال الحكومي ولغايات أخرى وذلك في فترة قريبة، بعد نقاش موسع مع الهيئات الاقتصادية والنقابية وهيئات المجتمع المدني ووزارة الاتصالات. ومن المفترض تنظيم حيز الترددات المتوافر وإعطاء الرخص على أساس دائم وليس موقتاً كما هو حاصل الآن مع الشركات المتخففة من تغير التشريعات. وهذه التراخيص يحدد عملها في مجال الترددات والنطاق الجغرافي والتقنيات المستعملة، وكل هذا يؤدي الى زيادة سعة الاتصالات داخلياً، وفتح بوابات العبور الدولية، وتأمين كل الخدمات المحروم منها لبنان. وتجدر الإشارة الى ان كل زيادة بنسبة 10 في المئة في عدد المشتركين في الهاتف الخليوي في الدول النامية تؤدي الى زيادة بنسبة 102 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي. كما ان كل زيادة بنسبة 20 في المئة في عدد المشتركين في خدمات"الحزمة العريضة"تؤدي الى زيادة قدرها 0.6 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي. الى ذلك فإن التراخيص الخاصة بالحزمة العريضة يمكن أن تساهم في تأمين استثمارات تراوح بين 250 و300 مليون دولار، كما ان النجاح في المشروع سيجعل الاستثمارات المتوقعة من خلال تراخيص"البرودباند"أو"الحزمة العريضة"تصل الى بليوني دولار في العام 2015. وفي حال نجاح خطة تحرير قطاع الاتصالات فإنه بحلول عام 2013 يمكن أن نشهد سرعة اتصال عالية يتمتع بها كل بيت ومؤسسة لبنانية في استخدام الانترنت. أما الاشتراكات في الهاتف النقال فقد ترتفع نسبتها من 31 في المئة حالياً لتراوح بين 70 و75 في المئة بعد ثلاث سنوات من تاريخ تنفيذ التخصيص. ومن المقدر أيضاً أن ترتفع نسبة المستفيدين من خدمات"الحزمة العريضة"من 0.5 في المئة من مجموع السكان حالياً لتراوح بين 15 و20 في المئة بعد سنوات من تنفيذ المشاريع المتعلقة بتطويرها. وقامت وزارة الاتصالات أخيراً بإجراءات ضرورية منها مكافحة السوق السوداء في مجال البطاقات المسبقة الدفع وتحقيق التوازن بين العرض والطلب. وارتفع سعر البطاقة المسبقة الدفع في السوق السوداء من 50 دولاراً تقريباً الى 120 ? 130 دولاراً، بينما بلغت خلال الصيف الماضي 200 - 250 دولاراً. كما ان وضع شبكتي الخليوي سيئ للغاية والخدمات متردية ومشكلتها"صعبة ومعقدة". الى ذلك رصد مبلغ 670 ألف دولار لتحسين التغطية والحد من التشويش على الشبكة من اسرائيل في المناطق الحدودية الجنوبية وفي مناطق الشمال والبقاع المحاذية للحدود السورية، ما يأتي بمردود عال جداً للخزينة. كما تم الزام شركة"ألفا"التقيد بالتسعيرة المخفضة التي أصدرتها الحكومة في تشرين الثاني نوفمبر 2007 وتعويض المواطنين عن الفترة السابقة. وهناك مداخيل لمصلحة خزينة الدولة يستفيد منها البعض جراء التخابر الدولي غير الشرعي وخدمات تحصل عليها محطات التلفزة عبر الأقمار الاصطناعية، ومن الهاتف الثابت على رغم أن معدل الجباية مرتفع في هذا الأخير، وكلها مسائل يجب حلها. كما تم فتح خط خاص للتخابر بين الفلسطينيين المقيمين في لبنان وذويهم وأصدقائهم في دولة فلسطين. وليس من الواضح الى الآن ما اذا كان سيتم تجديد العقود مع شركتي الخليوي والتي تنتهي في تشرين الثاني 2008. وفي مطلق الأحوال فإن تحسين أوضاع شبكتي الخليوي وزيادة طاقة الاستيعاب وتخفيض كلفة التخابر، وإجراء تعيينات جديدة في شركة اتصالات لبنان"ليبان تيليكوم"، لا يعني اطلاقاً التخلي عن التخصيص على ما أكده وزير الاتصالات جبران باسيل. علماً أن هذه التخصيص في حاجة الى توافق سياسي جدي بين القوى السياسية المتصارعة داخل حكومة واحدة يرفع كل طرف فيها متاريسه الخاصة به استعداداً للانتخابات النيابية المقبلة، وتحت مظلة بيان وزاري طموح لن ينفذ منه إلا القليل الذي في متناول اليد. * أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية. نشر في العدد: 16661 ت.م: 15-11-2008 ص: 27 ط: الرياض