معرفة ما إذا كانت الدول المالية ومعالجتها للأزمة قادرة على انتشال الاقتصادات من الورطة، تقتضي خطوة أولى هي إجراء التشخيص الدقيق والسليم. ولعل ما يدعو الى الدهشة هو صمت العلم. فكبار خبراء الاقتصاد وعلماؤه معتصمون بالصمت، والسياسيون لا يفعلون سوى الكلام في الاقتصاد. والحقيقة هي ان حشر ضمانات القروض الهالكة في جملة الضمانات العادية، بواسطة أوراق المشتقات وسنداتها على ما صنعت المصارف، هذا الحشر هو سرقة موصوفة. وينبغي ألا يتجنب المرء التسمية الصريحة، وعلى التسمية هذه يترتب الجزاء. وبعض أساتذة الرياضيات يدرسون كيف تعد صفقة رابحة في البورصة وهذا ضرب من الجريمة في حق الإنسانية لو يعلمون. ويزعم بعضهم ان تعقيد العمليات المالية، على مثال المشتقات، كان سنداً للازدهار الاقتصادي في الأعوام الأخيرة. وأنا لا أحسب هذا صحيحاً. فالمشتقات الورقية هي ثمرة اضطراب الاقتصاد الحقيقي. والاضطراب هذا بدوره، نجم من قرار نيكسون في 1971، ومعه مذ ذاك، ديك تشيني، تعويم سوق العملات. فالتعويم عمم المفاجآت غير المتوقعة ولا المحسوبة، وأوجب اللجوء الى الحيل المعقدة في سبيل ضبط قيمة السندات والأوراق المالية المتبادلة والمسوّقة. وولدت المنتجات المشتقة، ومبادلات الأسهم غير المستقرة القيمة، سوقاً مالية مستقلة عن الاقتصاد الحقيقي. وعلى هذا، دخلت الاقتصادات عالماً مجرداً وحسابياً خالصاً. ولم يبق ضابط أو قيد إلا الثقة. وتعاقبت الفقاعات: من الفقاعة العقارية الى الفقاعة النفطية. وانفجرت الواحدة بعد الأخرى حين توقفت أسعار السوق عن الارتفاع. وعلى هذا النحو ألقت صناعة المال النهمة بثقل مغامراتها الخرقاء على عاتق المجتمع كله. وإذا كانت العودة الى احتياط الذهب ومعياره مستحيلة، فينبغي التفكير في نظام آخر. واليوم، الدولار هو عملة عالمية، ولكنه كف عن أداء دوره عملة احتياطية منذ عقود. وتضطلع بهذا الدور، حقيقة، الصناديق السيادية والنفط، فمعظم الصناديق السيادية مصدرها عوائل النفط. فهل يعقل هذا؟ ويتوقع ان يعود سعر النفط الى الارتفاع حال استئناف النمو. وينطوي هذا على خطر شديد. فخير للاقتصادات وللسوق، ان تترك النفط جانباً، وتقتصد في استهلاكه، واستهلاك موارد الطاقة عموماً، وأن تقرر شراء النفط، على سبيل المثل، بعملة مسحوبة على حصص الكربون، على ما اقتُرح في مؤتمر كيوتو. ويحسن، في الأثناء، إنشاء سلة عملات مركبة من الدولار واليورو واليوان الصيني والروبية الهندية، وربما الين الياباني. فهذا هو ثمن استقرار النظام المالي والنقدي العالمي. وقد يكون الأخذ بهذه الحلول عسيراً على أمد قريب. وينبغي تداول حلول يتوافر الإجماع عليها، على شرط ألا نغفل عن حقيقة الوقائع. فما من اقتصادي واحد طرح السؤال الفعلي الذي لا مناص من طرحه: ما كان وقع الأزمة المالية لو أنها أصابت اقتصاداً حقيقياً يتمتع بالعافية والصحة؟ فمنذ عشرين عاماً، والاقتصادات المتقدمة تحاول عبثاً تجديد نصف النمو الذي شهدته في اثناء الأعوام الثلاثين المجيدة 1945 - 1975. وثلث سكان هذه البلدان يشكون هشاشة الحال وضعف المناعة الاقتصادية. فهم فقراء وبطالون أو يعملون في وظائف موقتة ومن غير ضمانات اجتماعية. والهشاشة هذه مرض عضال، ولعلها السبب في اقتراع المواطنين كيفما اتفق، وفي تبدد ثقتهم في رؤسائهم. وحمل الاقتراع ب"لا"في الاستفتاء على الدستور الأوروبي في نيسان/ ابريل 2005 على محمل الخطأ. فهو لم يعن رفض أوروبا، بل عنى رفض تحرير سوق العمل من ضوابط الحماية كلها. ولن نخرج من هذا من غير توزيع المداخيل على نحو أفضل، يرسي موازنة بين الأجور والأرباح على نسبة مجزية تقرب بين الحصتين. وكان هنري فورد 1863 - 1974، وهو أسهم في إنقاذ الرأسمالية خصوصاً إبان أزمة 1929، يقول:"أعطي العمال أجوراً عالية لكي يشتروا سياراتي". وغداة الحرب، جدد بناء الرأسمالية على المرتبات والأجور العالية. وأما اليوم، فحصة الأجور والتقديمات الاجتماعية في الناتج الإجمالي الداخلي تقلصت ما لا يقل عن عشر نقاط. وفي الأثناء، يفرح صاحب الأسهم ويفرك يديه ارتياحاً، ولكن من يتقاضى أجراً ثابتاً لقاء عمله يحول فقره بينه وبين مساندة النشاط الاقتصادي. وهذا هو السبب في خطورة الأزمة، وتوقع دوامها مدة طويلة. والخروج منها يفترض إجماعاً على تشخيص أسبابها. ونحن بعيدون من الإجماع هذا. ولم يستجب نداء وجهه، في أيار مايو، مسؤولون سياسيون اشتراكيون - ديموقراطيون وليبراليون الى رئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروسو، ونيكولا ساركوزي، الرئيس الدوري القادم للاتحاد الأوروبي، دعوا فيه الى تقييد"المال المجنون". وبعد خطوة أولى متعثرة، نجح نيكولا ساركوزي في تعبئة بلدان أوروبا واستنفارها على طريق معالجة الوجه المالي والمصرفي من الأزمة. وهو يدعو الى حكومة اقتصادية أوروبية. وأنا أوافقه الرأي. ولكن ينبغي على الأرجح انتظار سنوات قبل بلوغ إجماع على دور هذه الهيئة، وتفعيلها تالياً. وفي الأثناء، على الحكومات التفاهم على إجراءات بسيطة تؤدي الى تسيير النظام، وإخراجه من عرقلته، مثل تقليص الأوراق المشتقة، مكافحة الفراديس الضريبية، النظر في عمل صناديق التقاعد وحملها على تخطيط عملها على الأمد الطويل. وينبغي إقناع أصحاب الأسهم بأن التهافت على الربح المباشر مدمر ومجلبة خسارة عامة. فالتهافت هذا يتهدد جهاز الإنتاج ومبانيه، ويصيب الاستخدام بالهشاشة، ويضعف الديموقراطية. والزعم أن الأزمة الحالية تطوي الليبرالية لا أساس له. ولكنها، من وجه آخر، تنعى الليبرالية المفرطة، هذه المدرسة الفكرية المجرمة التي أنشأها ميلتون فريديمان 1912 - 2006. فذهب الى أن توازن السوق هو الأمثل، وأن تقليل القواعد حري بإبلاغ المتعاملين والسوق الحال المثلى هذه. وكانت هذه المدرسة رائد اليمين الأميركي، وعلى قدر أقل اليمين الأوروبي. وأثرها كان ضئيلاً جداً في المسيحيين الديموقراطيين الألمان واليمين الفرنسي، وهذا لا يزال ديغولياً. وفي سبيل حل الأزمة نحتاج الى امرين: البراغماتية والقواعد. وهذا ما يسع اليمين العمل به. ولكن اليسار، على خلاف اليمين، يسارع الى طرح مسألة توزيع الثروات. وعلى صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية، يؤدي انقباض الطلب في بلدان الشمال الى نتائج قاسية في بلدان الجنوب. فينبغي زيادة مخصصات دعم التنمية، كماً ونوعاً. والأزمة قد تحمل بلدان الشمال على الانغلاق. فقسوة الأزمة تعظم البطالة، وتضعف موقع العمل، وتفاقم الخوف من المنافس والغريب. ولا ريب في ان الخوف غير نصوح. وحال أوروبا نموذجية: فنحن ينبغي ان نستقبل مليونين الى 3 ملايين مهاجر في السنة، وذلك في سبيل استقرار سكاننا على الأمد البعيد، وضمان مرتباتنا التقاعدية. وهذا ما لا يجهله احد، ولكن العلم لا يؤدي الى الاقتناع به. عن ميشال روكار رئيس وزراء سابقاً ونائب أوروبي، "لوموند" الفرنسية، 2 /11 / 2008 نشرت في عدد 16658 ت.م: 2008-11-12 ص: 29 ط: الرياض