إضطرابات الماليات العامة في أوروبا هي ثمرة ضعف تنسيق السياسات النقدية في منطقة اليورو. ولا يجوز تهمة ألمانيا بالإحجام عن التعاون، والسعي في خفض كلفة العمل، من غير محاسبة الرشد الحكومي الأوروبي كله. والحق أن بلدان اليورو كلها، على هذا القدر أو ذاك، جنت الفوائد من عملة واحدة متينة. ولكنها امتنعت، في الأثناء، من التساؤل عن إجراءات الحفاظ على الخير المشترك هذا ورعايته. واقتصر الرشد الحكومي الأوروبي، مع إنشاء العملة الواحدة، على معايير ماستريشت. وهي تقضي بتنسيق التضخم والفوائد الاسمية والعجز المالي والمديونية العامة، وضبطها في إطار مشترك ومفيد. وبُلغت المعايير هذه في بداية تداول اليورو. فضبطت أسعار الفائدة ومتوسطات التضخم على نظيرها في ألمانيا وفرنسا. ويسَّر الأمر إبقاء المديونية والعجز في إطار معايير ماستريشت. ولم يلبث ضعف الإدارة الاقتصادية في منطقة العملة الموحدة أن حمل كل بلد على حدة على «استغلال» منافع اليورو، وأولها أسعار الفوائد الاسمية الضعيفة (والأسعار الحقيقية أضعف في بلدان الأطراف أي تلك التي تزيد فيها متوسطات التضخم عن معدّل منطقة اليورو الوسطي)، ثم سعر الصرف الثابت الذي يسهل المبادلات وعلى الخصوص مبادلات البلدان القادرة على المنافسة. ونجم عن ضعف التنسيق تعاظم المديونية العامة أو الخاصة، جراء ضعف أكلاف الاستدانة، في بعض بلدان المنطقة، واستفادة بلدان أخرى من قدرتها على المنافسة. ففي إسبانيا وإرلندا أدى التضخم المرتفع نسبياً، مع أسواق التسليف الحرة، الى زيادة مديونية القطاع الخاص. وغذى نمو التسليف نمواً متسارعاً استهلاك الأسر على نحو لا يحتمل، أي فوق طاقة المقترضين على إيفاء ديونهم وقروضهم. وهذا هو السبب في الفقاعة العقارية بإسبانية وإرلندا، وفي بلوغ استدانة الأسر مستوى عالياً. وفي بلدان أخرى، مثل اليونان، عظّمت أسعار الفوائد الضعيفة المديونية الحكومية، ودعت الحكومة الى تمويل ضمانات اجتماعية كريمة. فازداد عجز الموازنات في هذه البلدان، وتعاظمت المديونية العامة من غير قيد. وعلى وجه آخر، نجمت تنافسية قوية عن اعتدال الأجور في ألمانيا. ووسع هذه، وهي دخلت العملة المشتركة بسعر عملة وطنية قُدر بأقل من السعر الحقيقي وضبطت نمو كلفة أجور العاملين ضبطاً حازماً، وسعها الحفاظ على قوتها التنافسية وتحسينها قياساً على بلدان منطقة اليورو الأخرى كلها. وبلغ تخلف قوة المنافسة، قياساً على ألمانيا، في اليونان 7 في المئة، و10 في المئة في البرتغال، و12 في إسبانيا، و20 في المئة في إرلندا. ولن تتيح العملة الموحدة موازنة الفروق بواسطة سعر الصرف علواً ونزولاً. وعوضت إرلندا زيادة الأجور بتخفيض الاقتطاع الضريبي على أرباح الشركات. فهجمت الاستثمارات الأجنبية عليها. وعند انفجار الأزمة، عمدت إرلندا الى تخفيض رواتب الموظفين الحكوميين من غير زيادة الاقتطاع الضريبي على الشركات. وهذه استراتيجية تعود بالنفع على إرلندا وحدها. وعلى هذا، عمد كل بلد من البلدان الأوروبية الى الاستفادة من العملة الموحدة من غير ربط سياسته الآنية بسياسة بعيدة الأمد ومتكاملة. فالسؤال الملحّ هو كيف تنتهج سياسة اقتصادية رشيدة؟ وثمة عاملان راجحان على الإجابة احتسابهما: الأول هو التثبت من تعلق البلدان بخيرها المشترك، أي اليورو. ويقود هذا الى الاجراءات الرادعة التي ترعى تضافر السياسات الاقتصادية على بلوغ غاية مشتركة. فهل ينبغي ضمان ركن مالي مشترك (على شاكلة موازنة كبيرة أو صندوق نقد أوروبي أو إصدار سندات دين مشتركة)، وما هي المداخيل الكفيلة بتمويل هذا الركن، وما هي التدابير الضريبية الموحدة التي ينبغي سنّها؟ فما ينبغي تدبره، والحال هذه. * تباعاً رئيس المحللين الاقتصاديين في باركليز كابيتل ومسؤول سندات الخزينة في باركليز كابيتال، عن موقع «بروجكت سنديكايت» الدولي، 20/3/2010، إعداد وضاح شرارة.