إنعام كجه جي روائية وكاتبة عراقية تقيم في فرنسا منذ عقود، تمارس الصحافة والترجمة ملتاعة بنار الاغتراب الذي شتت ملايين العراقيين خلال عصري الديكتاتورية والاحتلال. لكنها تتميز بقدرة فائقة على تحويل شجنها طاقة إبداعية خارقة. وهي في روايتها الفذة الجديدة التي صدرت عن دار"الجديد"في بيروت بعنوان"الحفيدة الأميركية"تغور في صميم الجرح العراقي النازف باقتدار مذهل، وتبتكر بمخيلة نافذة قصة مترجمة مجندة، زينة بنت بتول، كانت تجنّست مع أبويها بالجنسية الأميركية قبل الغزو بسنوات طويلة، ثم انضمت إلى فيالق الاحتلال مخدوعة بحجة"تحرير العراق"من الطاغية. ولكي تعدل المؤلفة كفة ميزان الرواية تضع الحفيدة المستلبة في الجانب المقابل للجدة الصابرة"المزروعة في بيتها البغدادي كنخلة شامخة. تتردد الكاتبة في البداية في طرح رؤيتها من خلال أحد المنظورين، قبل أن تغلّب الحفيدة الشابة، وتجعل عالمها يصطدم بتحنان عنيف بحضن الجدة ومن بقي يدور في فلكها من المقيمين المغتربين في وطنهم، ربما لأن وجدان الحفيدة أقدر على تمثيل الصراع الدرامي المتطور الذي تزكيه روح الجدة المفعمة باليقين والثبات، حتى قبل أن تلتقي بها وتحاول تجميل العار الذي دفعها للعودة إلى مرتع صباها، عودة غير مرحب بها على ظهر دبابة الأعداء. تصور الحفيدة تناقض مشاعرها قبل التطوع قائلة:"وعلى رغم حماستي للحرب أكتشف أني أتألم ألماً من نوع غريب يصعب تعريفه، هل أنا منافقة أميركية بوجهين أم عراقية في سبات مؤجل؟ كنت انكمش وأنا أشاهد بغداد تقصف وترتفع فيها أعمدة الدخان كأنني أرى نفسي وأنا أحرق شعري بولاعة سجائر أمي، أو أخزّ جلدي دامية بمقصّ أظافري، لماذا أعجز عن الجلوس في مقعدي لخمس دقائق؟ أقول لها إنهم يمكن أن يكونوا أولاد عمك وبنات خالاتك. والجثة المتفحمة على مدخل مستشفى الكرخ قد تكون لسهيل - ابن جارتكم الست طيعة - الولد الذي أراد أن يقبّلك على سطح بيتكم في"الغدير"، هل نسيت تلك القبلة الأولى في كل تاريخك يوم صعدتما تحملان نظارات من الكرتون وزعتها إحدى الصحف لكي نتفرج بها على خسوف الشمس وكنت دون العاشرة". هذه النجوى التي تمثل انشطار الذات المهاجرة بين وطنين، وعدم كفاية الآلة الإعلامية الجهنمية في مداراة جرائم الحرب تضع القارئ في شفة الجرح الساخن، حتى وهو في بداية اللحظات التي كان بعض العراقيين فيها يهزجون بأمل التغيير وحلم الديموقراطية بل أن يسفر الاحتلال المجرم عن أنيابه الضارية. الذاكرة الأنثوية يرفض بعض الدارسين فكرة المتخيل الأنثوي المتميز، ويرون فيها ملمحاً عنصريّاً يغض من شأن المرأة الأديبة التي تستوي في تقديرهم تماماً مع الرجل من دون أدنى اختلاف، غافلين حقيقة بادهة مؤداها أن كل باصرة عبقرية لها خواصها الفردية في الرؤية والتمثيل، وأن تجربة المرأة تختلف في مستواها النوعي عن تجربة الرجل مع توافقهما الإنساني. ونجحت إنعام كجه جي في تقديم نموذج بليغ للذاكرة الأنثوية عندما تقبض على الواقع المتخيل وتستحضر مفردات الوجود القارّ في أعماقها، فضلاً عن مئات التفاصيل الصغيرة التي لا تملك ذواكر الرجال كفاءة استحضارها بهذا الوضوح الشفيف. تقول الراوية الحفيدة التي استقبلتها جدتها، لا باعتبارها مجندة مترجمة أميركية، وإنما على أساس أنها تعمل مع قوات الأممالمتحدة لمراقبة الحفاظ على أرواح المدنيين وحفظ حقوقهم الإنسانية خلال الحرب:"ترمقني جدتي بزاوية عينها وكأنها في حيرة من غبائي المستورد، هل يعقل ألا أذكر"طاووس"الخياطة التي تربطها بنا عشرة عمر". ربما يكون حشد هذه الأعمال بتلك الطريقة السردية لا يساهم في سن حدة الدراما ولا تسخين الأحداث، لكنه يحفر بالتأكيد في الذاكرة الأنثروبولوجية للإنسان العراقي ويجسد معالم هوية المرأة الاجتماعية وثراء عالمها النسائي، خصوصاً ان هذه المرأة ليست مجرد خادمة عارضة، لكنها أم حيدر ومهيمن اللذين سيكون لهما ثراء عميق في حياة الحفيدة عندما تعلم أنهما أخواها في الرضاعة. فقد كان من بين أعمال هذه المرأة الأسطورية إرضاع الأولاد والبنات عندما يجف حليب الأمهات. إنه نموذج للحياة العربية لا يخطر على ذهن الحفيدة التي تربّت"سز"على الطريقة الأميركية. تجسد الروائية العراقية المقيمة في باريس مأساة انشطار المهاجرين بين وطنيهما بحيث يصبح كل منهم"كلباً له بيتان"على حد تعبيرها المجازي المفعم بقسوة الخيال. ومع أنها اختارت منظور الحفيدة الأميركية كي تنكأ جرح مواجهة الجيل الجديد لمأساة غزو بلدهم فإنها تضطرها الى الكذب على جدتها كي لا تصدم شعورها. ومع ذلك فإن هذه الجدة الحكيمة تحدس بفطرتها طبيعة مهمة حفيدتها، بل تصرّ على إنقاذها من نفسها بخطة منهجية"لا أدري كيف دخل في روع العجوز أن تاريخ عائلتي هو حبل نجاتي، سيعيدني إلى الدرب ويصلح بوصلتي...". ومع غض النظر عن لعبة الشخصيات التجريبية مع المؤلفة فإنها حشدت بذكاء شديد في ثنايا الرواية عدداً من الإشارات الدالة على جوهر الحياة العائلية والوطنية العراقية. الجد العقيد الذي همشته الثورة لرفضه جنوحها، الزيجات المختلطة بين الأشوريين أو سائر المسيحيين والمسلمين، سنتهم وشيعتهم من دون أدنى تمييز طائفي أو ديني مما نراه انفجر بعد كارثة الغزو. هذه الحفيدة ذاتها هاجرت صغيرة مع أبيها الذي كان مذيعاً وسيماً في تلفزيون بغداد وشى به أحد رفاقه لإظهاره التراخي في نشرة أخبار القائد العظيم، فقبضوا عليه وقرضوا لسانه وشوهوا وجهه، ولولا وساطة مقربة لما نجا بجلده وهرب مع أسرته إلى المهجر الأميركي. لكن الخاصية البارزة التي تنطبع في عقل الحفيدة من سنوات مقامها في"ديترويت"هي التفكير بالصورة، فهي لا تمر بحدث أو ترى مشهداً من دون أن تحيله تواً إلى لقطة من فيلم سينمائي تتركز دلالته في العنوان الذي تختاره على البداهة. هذا الولع بالسينما وصداقة"اللاب توب"يتجاوران في نفسها مع محفوظات الشعر القديم الذي تتبارى بها مع أبيها قبل انفصاله عن أمها. وهكذا تتجسد فيها جذور أرض الرافدين مع شواغل أبناء القارة الجديدة وتصبغ رؤيتها للحياة. في إحدى زيارات الحفيدة المتخفية إلى جدتها، بالتواطؤ مع رؤسائها في المعسكرات التي اتخذت قصور صدام أوكاراً لها، سواء في تكريت أو في المنطقة الخضراء عند انتقالها إلى بغداد، ذهبت زينة تلملم العباءة حول وجهها ولا تترك سوى عينها اليمنى لترى الطريق، وقد قابلها رجل عراقي عادي"تعمد الاقتراب مني إلى أدنى حد ممكن، حدجته بنظرة مباشرة صفيقة لكي أقول له بأني قوية ولست خائفة منه، سمعته يقول وهو يجتازني: شلو عين... تقره وتكتب!". تكشف الرواية في فصول ممتعة عن تواري حب زينة السطحي لصديقها الأميركي عندما يرتطم وجودها بشخصية مهيمن - ابن السيدة طاووس - الذي يصحبها في رحلة سرية إلى عمان لإجراء جراحة لجدتها. عندما تنظر في أعماق عينيه وأغوار روحه ترى عالماً خصباً لا عهد لها به، ولا تصدها عن مراودته ما يعتقده من أنها أخته في الرضاعة، ولا ما يحكيه عن فترة أسره في إيران وكيف تحول بعدها من شيوعي مارق إلى ناشط قيادي في"جيش المهدي"الذي يفزع كتائبها الأميركية. هذا التناقض الحاد الذي تعرفه زينة في طبيعة قومها كانت ترى ملامحه في رفاقها من المهاجرين،"مغتربين لا يريدون أن يقطعوا الحبل السرّي مع الأرض التي جاؤوا منها، مستعدين لهز الرؤوس وبلل العيون مع أول نغمة"اللي مضيّع وطن وين الوطن يلقاه"يتلذذون بحرقة القلوب وكأنها سر أسرار البهجة. لماذا جاؤوا إلى أميركا وهربوا للعراق في جيوبهم مثل مخدر لا يطيقون منه شفاء". على أن الرواية تصب هذه التيارات الساخنة من الشجن عبر أحداث متلظية للجنود الأميركيين الذين تصحبهم زينة من ناحية، وقوى المقاومة الضارية من ناحية ثانية. ولأن التاريخ لا يتوقف حيث ينبغي أن تنتهي الرواية فإن رحيل الجدة يضع لحظة الختام للحفيدة التي تقرر حينذاك عدم السعي لتجديد عقدها، لتعود إلى وطنها الثاني مجروحة الكبد ومكلومة الروح بمأساة وطنها الأول، وكأنها تعيد قصة صراع الخنساء في مرثيتها لأخيها ونعيها زوجها بطريقة سردية سينمائية ينهمر فيها الشعور المصور باللهجة العراقية البليغة في سبيكة إبداعية متقنة.