لعل أطرف موقف مرّ به مسؤول غربي في أفغانستان هو ما رواه السير مالكولم ريفكند - وزير خارجية بريطانيا السابق - في مقال نشر في صحيفة"الديلي تلغراف"البريطانية قبل شهرين، من أنه في عام 1982، خطب في حشد من اللاجئين الأفغان في بيشاور الباكستانية، وأكّد على دعم بلاده لنضالهم ضد"قوات الاحتلال السوفياتي"، ولكن دهشته كانت غير سارة حين علم أن خطابه - الذي تصدر الصفحات الأولى للصحف المحلية في اليوم التالي - ترجم على أنه دعوة ل"مواصلة الجهاد ضد الكفار السوفيات"! لم يخطر في بال الوزير البريطاني حينئذ، أن الترجمة التي أضافت كلمة"الكفار"، كانت تعكس الفكر الذي بني عليه نضال"المجاهدين"، الذين لم يخوضوا حرباً دفاعاً عن المصالح الغربية، وإنما دفاعاً عن معتقدهم الذي من أجله تحالفوا مع الغرب. بيد أن الترجمة وإن لم تكن دقيقة، لم تثر كوامن القلق عند الوزير البريطاني في وقتها، لأنها كانت تعكس إلى حدّ كبير التوجه الغربي الى مساندة المقاومة الأفغانية، بمن فيها"مجاهدو طالبان"، الذين تحولوا في أعين الغرب لاحقاً، من"مجاهدين"إلى"إرهابيين"بمجرد تحول مقاومتهم ضد الغرب، بدلاً من الاتحاد السوفياتي السابق للسبب ذاته، وهو"الجهاد ضد الكفار المحتلين"، وهو أمر كان يجب ألا يخفى على الوزير البريطاني. وإذا كان الديبلوماسي البريطاني لم يستخدم كلمة"جهاد"أو"مجاهدين"في خطابه، فإن عدداً من مسؤولي الغرب سبق أن شهد لمقاومي"طالبان"أنهم"مجاهدون". ولا تزال صورة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان مرتسمةً في مخيلتي وهو يثني على أولئك"المجاهدين"في أفغانستان، وإن كان نطقه للكلمة جاء بلكنة أميركية مريبة! اليوم، وبعد سبع سنوات على ما سمي"الحرب ضد الإرهاب"التي بدأت نيرانها في أفغانستان، ها هو العالم الغربي يقف عاجزاً عن مقاومة العقلية نفسها التي كان هو سندها قبل عقدين من الزمان، وها هي"طالبان"اليوم أقوى منها قبل سبعة أعوام حين بدأت الولاياتالمتحدة حربها ضدها وضد"القاعدة". بل إن"طالبان"- ولأسباب يصعب فهمها استراتيجياً وعسكرياً - باتت توشك اليوم على تحقيق نصر على قوات"الناتو"، التي تبحث عن مخرج من مستنقعها الأفغاني، لتكون بذلك شاهدة على صحة التقارير التي تنبأت بنجاح المقاومة الطالبانية. ففي تقرير أعدّه مركز بحوث"سنلس كاونسيل"عن الأوضاع في أفغانستان قبل أقل من عام، جاء التقرير متشائماً من مستقبل الوضع الأفغاني وانتهى إلى أن"كل الأمور تتجه إلى الأسوأ في أفغانستان". وفي إجابة عن اسئلة الصحافيين، قال بول بيرتون الذي قرأ التقرير الذي حمل عنوان:"أفغانستان على شفير الهاوية": إن"هزيمتنا في أفغانستان ستكون كارثية للغرب ولمستقبل الناتو"! وحيث بدت الآن معالم هذه الهزيمة، لم تتوان الاستخبارات الأميركية بالتعاون مع نظيرتها البريطانية، عن وضع خطة تهدف إلى مخرج لقوات"الناتو"التي أيقنت بعد إنفاق مئات البلايين من الدولارات على حرب أفغانستان، أن الحلّ العسكري في أفغانستان لن يجدي نفعاً! فجاءت هذه الخطة - التي لم تعد سرية - للتقريب بين حركة"طالبان"وحكومة كارزاي. من هذا المنطلق، تأتي دعوة الرئيس الأفغاني حامد كارزاي الى الحوار مع"طالبان"أكثر من مرة. وواقع الأمر أن دعوة كارزاي لمحاورة"طالبان"تأتي من موقع ضعف وليست من موقع قوة. ذلك أن خسائر قوات"الناتو"في أفغانستان باتت تفوق عدد خسائر الأميركيين في العراق. وكما هو معلوم، فإن عدد القوات الدولية في أفغانستان أقل من ثلث عدد القوات الموجودة في العراق. وعلى رغم تصعيد هجمات قوات"الناتو"في الآونة الأخيرة في أفغانستان، والتي نتج عنها مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص هذا العام وحده، معظمهم من المدنيين، إلا أن ذلك لا يبدو مؤثراً في مقاتلي"طالبان"الذين يبدون وكأنهم يعشقون الموت! من أجل ذلك، فإن موقف حركة"طالبان"الرافض لنداءات كارزاي - الذي يعلم جيداً أن بقاءه مرهون ببقاء قوات الاحتلال - مبني على معرفة الحركة أن الرئيس الافغاني إنما يعبر عن رغبة قوات الاحتلال التي ترفض"طالبان"بقاءها. وتبعاً لذلك، فإن مقاتلي"طالبان"غير مستعدين للجلوس معه، لأن هؤلاء يرون أنهم - كما كانوا يظنون من قبل - إنما يقاتلون"الكفار المحتلين"! * حقوقي دولي