يقدم المخرج الفلسطيني نزار حسن المقيم في الناصرة فيلماً مختلفاً هذه المرة عن نوعية الأفلام التي اشتغل عليها من قبل. و"جنوب"هو شأن لبناني خالص، وفيه يجمع المخرج"أبطاله من طائفة واحدة، ويضعهم أمام كاميرا مقتحمة حتى لأبسط خصوصياتهم، لا بل تستدرجهم عبر أسئلة لها قوة الاستجواب وعلاته. نزار حسن يبرر ذلك بالقول إنه هنا إنما يشرح واقعاً موجوداً. ويضيف:"أنا أقف على الحياد، فليس شغلي أن أكون مع حزب الله أو مع الحريري". وفيما بدت ضاحية بيروتالجنوبية لبعض شخصيات الفيلم بأنها منطقة كوزموبوليتانية فيها مختلف الألوان، فإن الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 جاء ليضع حداً لهذه الهوية ويصبغها بلون تكرهه احدى شخصيات الفيلم كما تعبر عن ذلك. فيلم"جنوب"يجمع تناقضات كبيرة يعيشها المجتمع اللبناني من الآن فصاعدا، ونزار حسن كما يقول"لست مسؤولاً عنها فأنا ذهبت هناك لأصور فيلماً تسجيلياً، لا لأنفذ طلبية تلفزيونية لمحطة آرتي الفرنسية - الألمانية". ويضيف:"لقد شعرت بالغضب عندما قرأت مقالاً للدكتورة في الجامعة اللبنانية منى فياض حول حرب تموز 2006 والذي نشر في جريدة النهار اللبنانية تحت عنوان"أن تكون شيعياً الآن"حملت فيه حزب الله المسؤولية عن وضع لبنان برمته"على كف عفريت، ورأت في العدوان الإسرائيلي فصلاً للجنوب عن فلسطين عندما حل الحزب في المنتصف مكان الدولة اللبنانية. هنا حوار مع حسن الذي شارك بفيلمه في مهرجان الإسماعيلية الدولي الثاني عشر للأفلام التسجيلية والقصيرة: فيلم"جنوب"هل هو نتاج صراع بين مقالين كتبا إبان فترة حرب تموز 2006؟ - أبداً.. فيلمي لا علاقة له بصراع بين مقالين يمثلان توجهين مختلفين تماماً. على العكس الفيلم هو بحث في الجغرافيا السياسية، كما هو بحث في الجسد، هو كذلك بحث في السنيما وفي الواقع. والسينما التي أعرفها تبدأ عادة من التفاصيل الصغيرة التي أعترف أنها تبدو للبعض أحياناً غير واضحة للآخرين، وما يسمى اليوم في الجغرافيا السياسية شمال فلسطينوجنوبلبنان كانا حتى عهد قريب مرتبطين ارتباطاً عضوياً ببعضهما حتى أن جدي كان تاجراً له منطقة نفوذ في إطار هاتين البقعتين. هل فيلمك بحث متعمد في الجغرافيا السياسية التي تمثلها كلا البقعتين؟ - لا يوجد فيلم ليس فيه بحث سياسي. هل الفيلم بحث في فساتين النساء وسهراتهن. السينما كلها سياسة، ومستحيل أن تكون غير ذلك. هل صرنا نخاف من كلمة سياسة؟ ربما يهابها بعض"المثقفين المتحضرين"الآن، ولكنها بالنسبة إلي تظل كلمة جميلة ولها وقع خاص على مسامعي. أنا لم أقصد ذلك، ولكن"تورطك"فيها في شكل مباشر قد يؤثر في رؤيتك كسينمائي؟ - بما أن السينما تؤثر في البشر، فإنها تظل سياسة ولا شيء آخر، وأنا عندما قدمت الاقتراح للصناديق الداعمة والمحطات بينت في فكرتي كيف يمكن للشخص أن يتبلور في العلاقة بين المستويات السياسية والاجتماعية والنفسية، وقد أخذت على عاتقي منذ البداية مبدأ الهوية كي أظهر كيف تتكون شخصية الفرد خلال انتقاله عبر هذه المستويات، فقد تبدأ من شخص عصبي المزاج وله هوية وتنتهي بالهوية الاجتماعية السياسية الأكبر التي ينتمي اليها أهل الجنوباللبناني، فأنت تأخذ هذه الأشياء لأن هذا الانسان عندما يبحث عن الحماية لحظة شعوره بالخطر الداهم فإنه يذهب الى الهويات الكبيرة، وما فعلته الحداثة هو فكرة الدولة التي تؤمن الهوية للفرد وتحميه، وبما أن مصطلح الدولة الحديثة قد انهار ولم تتم حماية أحد، فإن الفرد المعني بهذا الانهيار أخذ يرجع أوتوماتيكياً الى الهويات الصغيرة. لماذا يخرج المشاهد ? للوهلة الأولى ? من فيلمك بانطباع لا علاقة له بهذه المعايير العليا الجمالية؟ - هناك مشاهدون كثر غيرك رأوا في فيلمي عكس ذلك. هذا النوع من المعايير الجمالية العليا يبتعد من قوانين الاستهلاك الترفيهي والخاضع لمعايير السوق القريبة من الاقتصاد والبعيدة كل البعد من السينما. أنا شغلي الشاغل في السينما يكمن في تبسيط الأشياء حتى لا تكون هناك حاجة عند المتلقي للتفكير بل التشوق والإثارة. أنا أحاول أن اقرأ وعليه من دون مخالفة، ولهذا أقوم بإخفاء أدوات العمل السينمائي وأسلوبها الذي عملت في الواقع وأبقيت فيه المعاني واضحة، وعندما أكون في حاجة لبيع هذا الفيلم، فأنا هنا أتملق المشاهد واستجديه، فيما السينما التي نعمل عليها هي سينما تحد لأن المشاهد يريد ذلك، وفي هذه الحال يوجد شيء أنا مضطر لعدم الأخذ به، وهو العسر في فهم المقروء وهذه مسألة يحولونها الى نقد للفيلم، وإشكالية فيلم"جنوب"تكمن في أنه يلعب في الدوائر الخطرة كسينما وكموضوع. استخدامك في شكل مباشر لبعض التقنيات السينمائية كأن تظهر المايكرفون وحامله في الكادر السينمائي قد استهلك منذ زمن بعيد في أفلام روائية من باب كسر الإيهام الذي يصنعه الفيلم بعلاقته مع مشاهديه... ما هو الجديد في طريقتك؟! - أنا لا أدعي اطلاقاً أنني اخترت هذا الشيء، وأنت عندما تقارنني بأفلام روائية، فأنت تطري عليّ لأنك تشاهد هذه الأشياء ثانية من خلال فيلم تسجيلي، والشيء الذي اشتغلت عليه هو كيف يمكن لك أن تترك الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي يذوبان ببعضها البعض إذ عادة لا ينتبه أصحاب الصنعة الى أن الشخصية في الفيلم التسجيلي هي شخص محاور - بفتح الحاء -، فيما الشخصية في الفيلم الروائي لها أبعاد عاطفية ونفسية وتناقضات في حاجة الى حلول درامية، وما فعلته في فيلمي، وهذا أضمنه لك هو أني حولت الشخص من محاور الى شخصية وصار لدينا سرد بعيد من الاستعراض. بدت الشخصيات المحاورة في فيلمك وكأنها عرضة للانقضاض الدائم من قبلك... بالطريقة نفسها التي كنت"تنقض"فيها على سائق الجرافة الاسرائيلي في فيلمك"اجتياح"؟! - فيلمي"جنوب"هو بحث في طبيعة البشر، وهذه التفسيرات التي توضع في صيغة سؤال هي مسؤولية المتلقي أيضاً، ولك أن تلاحظ أن شخصياتي أيضاً كانت تنقض عليّ. لقمان في"جنوب"والجندي في"اجتياح"دائماً كانا يسألانني الى أين تذهب. الدراما تكمن في انقضاض أبطالي عليّ أيضاً، ذلك إن عملية صناعة الفيلم هي عملية ولادة بجمالها وقبحها وكرهها وحبها وفيها كل التناقضات، وأنا عندي حال عشق في الفيلم، وأنت عندما تعشق تدخل في حال الكره أيضاً. أبطالي يستسلمون لي وأنا استسلم لهم، إذ كيف يمكن أن يحدث ذلك من دون حال العشق التي أتحدث اليك عنها.